مشاكســـة
لم اكن اريد الذهاب , لكنني ذهبت , ولم اكن اريد زيادة بحر الامي المتلاطم والعميق القرار بالام اضافية , لكنني فعلت , ولم اكن اريد ان اعمق احزاني الكبيرة باحزان اخرى مريرة , لكنني مضيت قدما وصعقت , ولم اكن اريد ان اذرف دمعة تخدش رجولتي المكابرة , لكنني رغم مكابرتي وصمتي بالنشيج غرقت, ومع تلمسي لجوانب من فضاعة الوقائع والاحداث المأساوية لشعبي المسيحي اشعر بانني اليوم , الف الف مرة قد ذبحت.
ففي زيارة مع زميلين عزيزين, ( فائز وشوكت ) من مؤسسة حياة المحبة العالمية , رافقتهما خلالها لمعايشة اوضاع قسم من اهلنا النازحين الهاربين من حرب الابادة التي اشعل فتيلها مغول العصر القادمين من عمق دياجير الانحطاط والجريمة والهمجية في الموصل والمدن المحيطة بها في سهل نينوى وتوزيع بعض المساعدات الغذائية المتواضعة عليهم , ترسم الوجوه المتعبة للالاف من المسنين والمرضى من جموع الرجال والنساء والاطفال الذين تقطعت بهم السبل وضاقت امامهم الحياة وتجهمت الدنيا بوجوههم فتجمعوا داخل كنيسة مارت شموني وحواليها وهم يبحثون عن ظل شجرة او عن جدار متهالك او عن سطح مركبة او عن بقايا خيمة ممزقة وعن اي ملاذ اتقاءا للهيب الشمس الذي لا يرحم وعن وجبة طعام متواضعة تسكت صرخات معداتهم الخاوية وعن رشفة مياه قد تطفي شيئا من لهيب الضمأ لوحة ماساوية لأعمق معاني وافرازات المعاناة الانسانية وهم يتساءلون عن المصير المجهول الذي ينتظرهم وعن الضمير الانساني الذي لا يزال غائبا عن معاناتهم بعد ان عمد (فرسان) الحقد والهمجية الى تشريدهم واغتصاب دورهم وممتلكاتهم واموالهم وحتى ادويتهم الخاصة واوراقهم الثبوتية وهم يخيرونهم ( بمنتهى العدل والاتصاف والفروسية ) بين حد السيف او تغيير معتقداتهم الدينية في هذا الزمن بالذات زمن الحقوق الانسانية والحريات العامة.
فاي حقد واية همجية بل اي استهتار هذا بكل القيم السماوية والانسانية والاخلاقية وحيثيات وبنود القانون الدولي, ان يطرق ابواب بيتك وفي وطنك الذي تمتد جذورك فيه الأف السنين حثالة الجهل والانحطاط والتخلف من اعداء الانسان القادمين من افغانستان او باكستان او الشيشان او من بقية البلدان ليقتلعونك عنوة من وطنك ومن جذورك ومن انتمائك ومن ارضك ومن بيتك ومن ذكرياتك ومن ملاعب صباك وشبابك وليفرضوا عليك تخلفهم وعقدهم وهمجيتهم , متجاوزين كل الشرائع السماوية والقيم الاجتماعية والمبادئ الانسانية والاحكام القانونية والدستورية الحضارية ليفرضوا احكامهم المزاجية الارهابية التي تتيح لهم اشباع ساديتهم الدموية بجز الرؤوس وقطع الايدي والارجل وسبي النساء وسرقة الاموال العامة والشخصية وهدم التراث والشواخص والشواهد الحضارية والرموز الروحية وفي مقدمتها المساجد الكنائس واحراق الكتب والمراجع التاريخية والاخطر من هذا كله , ادعاءاتهم التي تثير الاستهجان والسخرية والادانة والاستنكار معا بان مجمل جرائمهم الدموية هذه انما هي تنفيذ لارادة الله , فحاشا لله العادل الحق الرحمن الرحيم المسامح الغفور القدوس الكريم ان يتحدث باسمه حفنة من الارهابيين الدمويين القتلة من اعداء الانسانية والقيم والدين ليجعلونك لاجئا في وطنك وغريبا في موطن ابائك واجدادك.
في رحلة ماساوية كفيلة ان تجعل صخور الجبال تتفتت الما وحسرة وحزنا وهي تتلمس واحدة من اعمق عذابات الانسانية بين صرخة رضيع جائع ودموع ام وجدت فجأة نفسها واطفالها على قارعة التشرد ونشيج رجل عاجز عن ان يوفر لعائلته سقفا يحميهم او وجبة طعام تسد رمقهم بعد ان اجبرتهم وحوش هذا الزمن الردئ المسعورة على ترك كل ما يمتلكونه وراءهم , تبرز الكثير الكثير من الاسئلة حول الجهة المسؤولة عن انصاف هؤلاء الضحايا المشردين العطاشى الجياع المتعبين الذين لا يدرون اي مستقبل مجهول ينتظرهم ولا كيف سيتدبرون يومهم وغدهم والذين لا ذنب لهم ليكونوا ضحايا موجة العنف والارهاب والهمجية هذه الا كونهم من اصحاب هذا الوطن وجذوره وبناة نهضته وحملة رسالة المحبة والتسامح والتعايش واصحاب قيم رفيعة ورواد حضارته العريقة , وحول مسؤولية الحكومة المركزية والبرلمان المباشرة عن هذا الشعب المعذب الذي بات يحمل صليب احزانه وعذاباته على ظهره الذي ادمته مواقف الغدر والحقد والتشفي كما حمل السيد المسيح صليبه قبل اكثر من الفي عام على ظهره من اجل خلاص البشرية.
الحضور الحكومي الرسمي والمؤسساتي غائبا كان , والمساعدات الرسمية غائبة , الاعلام الذي يجب ان يضع هذه الماساة الانسانية بكل جراحاتها امام الراي العام العالمي كسيح وشبه غائب , وجبات الطعام المنتظمة والمياه غائبة او متواضعة , المخيمات قليلة , ومنظمات الاغاثة المختلفة غائبة او معدودة, الجهد الانساني الموحد للاغاثة غائب , ممثلوا هذا الشعب المسكين غائبون.
ما يستحق الاشارة والاشادة مبادرات بعض المنظمات الانسانية في تقديم بعض وجبات الطعام والمياه بشكل مزاجي دون الاتفاق على برنامج مركزي للاغاثة , وحضور بعض رجال الدين والمسؤولين ومبادرة بعضهم بالتعاون مع بلدية عينكاوة لاقامة مخيم هنا واخر هناك وتبرع اخرين لشراء خيم ومعدات والموقف الانساني الرائع لسكان عينكاوة الاصلاء وبقية الجهات , وكان الاولى تشكيل جهة اشراف مركزية من مختلف الجهات والمنظمات لتنظيم عملية توفير محلات ومخيمات الاقامة ووجبات الطعام والأهم تحديد اتجاهات مصيرهم ومستقبلهم وتنظيم الفعاليات الاعلامية لنقل جوانب من عملية جريمة الابادة الجماعية هذه الى العالم اجمع , ودعوة مجلس النواب العراقي تجسيد تمثيله لهذا الشعب بالقدوم الى كردستان وعقد جلسة طارئة له هنا في اربيل بين المهجرين والمضطهدين المسيحيين ليشعرهم بانه بينهم وبالتضامن الفعلي الحقيقي معهم وليتلمس عن قرب معاناتهم وليعيش ولو لساعة واحدة جوانب من مأساتهم ومصاعبهم واحتياجاتهم , لكن يبدو للاسف الشديد ان شعبنا المنكوب المضطهد يقبع في واد وبعض ممثليه في واد اخر, في وقت نحن احوج ما نكون فيه الى توحيد صفوفنا وتمازج خبراتنا وتفاعل امكاناتنا والى جهد علمي واعلامي خبراتي فعال وكفئ قادر على ان يطلق صوتنا عاليا مدويا وان ينقل تفاصيل جريمة الابادة الجماعية هذه الى اقصى زاوية في الكرة الارضية وان يهز بها بقوة وعنف الضمير الانساني ويحولها الى زلزال يهز الرأي العام ويوقظه من سباته ويضعه وجها لوجه امام مسؤولياته القانونية والاخلاقية والانسانية من اجل ضمان حقوق شعبنا اولا ومن ثم من اجل ان تتحول هذه الجريمة الماساة الى وصمة خزي وعار ابديين على جبين الوجوه الكالحة النجسة لكل من اقترفها ومولها ودعمها وشارك بها وضمان ملاحقته قضائيا ووضعه امام محكمة العدل الدولية , وربما امسى شعبنا المسيحي وهو داخل دوامة هذه المأساة بحاجة الى ممثل بشجاعة ومبدئية وصلابة البرلمانية الاصيلة (فيـــان دخيـــل) لوضع قضية شعبنا امام الرأي العام.
قالت لي امرأة من بين النازحين وهي تحمل رضيعها بين احضانها وعيناها مغرورقتان بالدمع الحزين (اننــا نذبــح .. لقــد فقدنـــا كــل شــيئ .. ما هـــو مصيرنـــا ؟؟؟ هـــل نسينـــــــا العالــــم ؟؟؟)
لا املك الا ان اكرر معها تلك التساؤلات المشروعة واضعها امام المعنيين الحكوميين والسياسيين والبرلمانيين ومنظمات الدفاع عن حقوق الانسان في الداخل , وامام الرأي العام العالمي , وامام الانسانية جمعاء في الخارج:
( اننـــــا نذبــــح .. فهـــــل نســــينا العالــــــم ؟؟؟ ) .
مال اللـــــه فـــرج
Malalah_faraj@yahoo.com