يقولون لي تحدّث ! عن ماذا اتحدث ؟ هل اتحدث عن اناس تركوا دورا وقصورا وسكنوا الارصفة والشوارع والساحات والحدائق وجعلوا من الارض فراشهم ومن السماء غطاء لهم .
هل اتحدث عن اناس تركوا اموالا وعقارات وارصدة في بنوك وباتوا الان ينتظرون من يُحسن عليهم بوجبة طعام او يقفون في طابور للحصول على مساعدات لتأمين قوتهم لايام اخرى .
هل اتحدث عن اناس كان لهم اعمالهم ووظائفهم وانشطة لا تكاد تترك لهم فراغا ، حتى اصبح الان يومهم كله فراغا ، لا شيء يُشغلهم غير ملاحقة اماكن توزيع المساعدات والجلوس في حلقات او على دكات الحدائق يراقبون الاخبار بل احيانا ينسجون الاخبار من خيالهم ويتأملون العودة السريعة الى الديار . أناس لم يعد للمستقبل مجالا في تفكيرهم لان عند هؤلاء قد انتهى كل شيء ، الدماغ توقف عن التفكير بسبب الصدمة ، اصبحوا مجرد شبح انسان يتحرك .
لقد ذُبحنا بغير سكين ، الانسان يُذبح مرة ويموت ، لكننا نحن نُذبح كل يوم بل كل ساعة وكل دقيقة كلما تعود بنا الصور والذكريات الى الديار والى لحظة خروجنا ، هروبنا ، طردنا سمها ماشئت المهم لم نعد في ديارنا ، اصبحنا مهجرون في بلادنا ، عوائل تشتت في مدن وبلدات وقرى استضافتنا وفتحت لنا ابوابها ، قرى لم نكن نتخيل اننا سنزورها يوما ولكن قدرنا جعلنا لا نزورها فقط بل نعيش فيها ايام هجرتنا ، اصبحنا مشتتون نبحث عن اخ او اخت او قريب او صديق لم نكن نكاد يوما الا ونلتقي واليوم اصبحنا مفرقون .
لا زلت احسب ان الذي حصل هو حلم سأصحوا منه في الصباح لارى كل شيء في وضعه الطبيعي ، هل يمكن ان يحدث ذلك ونحن في القرن الواحد والعشرين ، هل عادت بنا عجلة الزمان الى الوراء والعالم يخطو كل يوم خطوة نحو الامام . هل عدنا الى زمن الغزوات وقوم يُغير على قوم فيأخذ الغنائم والسبايا ، انه شيء من الخيال ولكن ليس في مسلسل تلفزيوني بل حقيقة .
وضع بتنا نعيشه واصبح واقعا لا بد منه . عندما يأتي المساء تزدحم الغرف والقاعات بساكنيها ، اما وقت النوم فتتمدد الاجساد على الارض متراصة متلاصقة في تركيبة اشبه ما تكون بسجادة بشرية . صراخ طفل يرتفع من احدى الزوايا لم تترك امه حيلة حتى تجعله يخلد الى النوم ، بينما هو يُصرُّ الا ان ينام على نفس فراشه وفي نفس المكان الذي كان ينام فيه في دارهم . بالله عليكم كيف يمكن لهذه المرأة ان تُقنع طفلها الصغير هذا انه لم يعد بامكانه النوم في نفس الزاوية التي كان ينام فيها ، كيف يمكن لها ان تفهمه انهم لم يعودوا في دارهم انهم الان مهجرون .
طفلة في الخامسة من عمرها تراقب مشهد توديع لاهلها في مرآب السيارت المتوجه الى تركيا ، قبلات واحتضان ودموع وفراق وهي تسأل ما الذي يجري ؟ لماذا الجميع يبكي ؟ الى اين نحن ذاهبون ؟ افلا نعود الى بيتنا ثانية ؟ هل تعلم هذه الطفلة انها ساعة فراق اجباري ، سفر نحو المجهول ربما لن يتم اللقاء ثانية وان تم فسيكون بعد سنوات طوال .
في هذه الايام حتى الذي يفارق الحياة ( والظروف كلها مواتية لذلك ) لم يعد له مكانا يُدفن فيه وان وُجد ففي مقبرة الغرباء . ربما لن يكون هناك من يمشي خلف نعشه فاقرباؤه كلهم اصبحوا مشتتون .
في ليلة وضحاها يُقتلع شعب من جذوره ، وتُستبدل هوية منطقة ، وتاريخها سيشوه لانه سيُكتب بايدي غير سكانها . ومهما تحدثت عن مأساة هؤلاء الناس ( مسيحيي سهل نينوى ) فلن يستطيع الكلام ان يصور حجم الهول الذي اصابهم ، عندها سيصمت الكلام خجلا ، لانه لم يعطي حجم المأساة حقها .
بهنام شابا شمني
برطلي / سابقاِ
عنكاوا