زيارتي الى مناطق سهل نينوى

     تسنى لي زيارة بلدتي القوش وما يحيط بها من القرى والبلدات للفترة من 21- آذار ولغاية 6- نيسان 2016، وقد اطفئت ظمئي الى تلك الأصقاع التي ولدت وتربيت فيها قبل 64 عاماً. كانت بلدتي في سابق عهدي بها مأهولة بالسكان، ومنذ قديم الزمان، ولكن غمرة الاحداث والتقلبات الدراماتيكية التي مر بها الوطن باسره، وطوفان الهجرة بات يهدد كيانها وثباتها عبر القرون.

     الآن قرابة نصف قاطني القوش من النازحين من بلدات وقرى سهل نينوى التي احتلها داعش في غفلة من الزمن قبل حوالي السنتين، هناك الكثير من العوائل مؤجرة سكناً لائقاً وبأيجارات رمزية، فيما يسكن قسماً آخراً بيوتاً قديمة او في مدارس، حيث في مدرستي الابتدائية التي درست فيها للفترة من 1958- 1964 العديد من الاسر وقد زارتهم في العام الماضي الممثلة العالمية انجلينا جولي الحائزة على وسام ملكة بريطانيا اليزابيث، النازحين باجمعهم ينتظرون الفرج القريب في تحرير مناطقهم وبالاساس تحرير مدينة الموصل مركز محافظة نينوى العريقة.

     وضع العوائل غير مستقر، وبعضها اتخذت من اعمال في القوش او الاطراف المحيطة، وبعضها الآخر تصرف مقتنياتها التي جمعتها طوال عمرها او تتلقى مساعدات من اقاربها في الشتات، او مساعدات من منظمات خيرية محلية او دولية، في سوق القوش فتح العديد من النازحين دكاكيناً جديدة ومصالح تكمل الدائرة الاقتصادية في البلدة، والتي عمادها الاساس هو الزراعة والرواتب، بالنسبة للزراعة فبعد احتلال داعش لنينوى لم تتقاضى اثمان محصولاتها وللسنة الثالثة، اما الرواتب فبعضها متوقفة عن الصرف لاشهر عدة، مما يفاقم الأزمة الاقتصادية، وينظر السكان والنازحين معاً الى مستقبل مجهول، لذلك يركب بعضهم اهوال المصاعب والمحن في ترك ارض اجدادها الى بلدان اللجوء في اوربا واميركا، حيث ينتظرها طريق عسير آخر، ينبغي سلوكه لبلوغ الاستقرار النسبي.

     في احد الايام تسلقت جبل القوش مع بعض الاصدقاء، وعند بلوغ قمته، شاهدت اسرة ايزيدية منهمكة في اخراج نبات الكعوب الذي يعد من المكبوسات المخللة، والاسرة تتكون من رجل وإمرأة واولاد، وعند سؤالي عن مكان سكنهم، فقالوا" نحن لاجئون من سنجار ونعيش في مجمع- شارية-  خلف الجبل" وعند ما ذكرت اسماء قرى ومجمعات في منطقة سنجار قالوا: انهم من مجمع تل البنات، وكذلك سألت عن اسم الرجل فقال: خيرو وعند التمعن في الاسم يظهر بانه على اسم الملك الاشوري سنحاريب- سنخيرو- خيرو. كم حزنت عندما جمعتهم مع بعض وبايديهم مقالع يدوية وصورتهم، ليظهر فيما بعد بان ذاكرة كامرتي لا يتسع للمزيد من الصور.

     من محاسن الصدف ان التقي باسرة نازحة من الموصل، وقد سكنت في غرفة مؤجرة عندهم عام 1973- 1974 في محلة الفيصلية بالجانب الأيسر من الموصل، وكنت حينها طالباً في كلية الهندسة، مضى على فراق تلك الاسرة قرابة 43 عاماً، فأرجعنا ذكرياتنا، وصورت معهم الصورة التالية وهم يتطلعون الى يوم العودة الى بيتهم الجديد في الحي العربي بالمدينة.

     في احد الأيام وبصحبة اصدقاء، ذهبنا في رحلة غير سهلة، الى بلدة تلسقف التي تحررت من داعش في العام الماضي ولكن سكانها لم يعودوا اليها، نظراً لقربها من مواقع عسكرية لداعش في قرية باطنايا، وبذلك تكون عرضة للقصف المدفعي( هاونات) او بشن هجمات متكررة عليها فيتصدى لها البيشمركة الشجعان المتمركزين في اطراف تلسقف. هناك في جولتنا شاهدنا شعارات الدولة الاسلامية لازالت على الجدران، وشاهدنا دمار بعض البيوت، كما شاهدنا الاثاث والمفروشات والمعدات وقد تبعثرت او علا التراب سطحها، ولشد ما جلب انتباهنا الصور العائلية والايقونات الدينية التي كانت ما تزال معلقة في الغرف. صور في تلسقف بتاريخ 21- 3- 2016 .

     العديد من القرى والبلدات المسيحية والأيزيدية في ناحية القوش وقضاء الشيخان وقضاء سنجار قل عددهم كثيرا بسبب شريان الهجرة النازف الى دول الجوار او الى اوربا والامريكتين. امام هذه المأسي التي لا تحصى ومنها استغلال الالاف من النساء الايزيديات كعبيد واسرى يباعن في سوق النخاسة، يا لفظاعة ما يحدث في مطاوي قرننا الحالي. كل ذلك يتطلب معالجة محنة النازحين والسكان الاصليين مسيحيين وأيزيديين وغيرهم على امتداد مناطق استولى عليها داعش من شمال وشرق سوريا الى شمال وغرب العراق. وتتطلب هذه الاهوال مساعدة المجتمع الدولي في ايجاد حكومة قوية مستقرة في بغداد وارساء دولة قانون تراعي حقوق الأقليات الدينية والقومية، وعلى امتداد ارض العراق، وكذلك يتطلب عودة الاوضاع في سهل نينوى الى طبيعتها، وذلك بارساء ضمانات دولية وحماية خاصة لمرحلة انتقالية، حتى تعود الثقة والطمأنينة للتعايش المشترك، وتجاوز ما لحق بها من ظلم وضيم واضطهاد، حقيقة تزعزعت الثقة مع الجيران وقد كانت مترسخة عبر القرون، والغد لناظره قريب.

اميركا في 21- 4- 2016