فكرت بعمق منذ نعومة اظافري بفلسفة الموت ، لماذا نموت في نهاية المطاف ؟ وكانت والدتي خير معين لي ، فشرحت ببساطة إن الإنسان كالعشب او الزرع ، ينبت ويثمر ثم يشيخ وييبس ويموت في الشتاء لينبت ثانية في الربيع ، وهكذا دواليك ، فلم يقنعني الجواب ، وبدأت أقرأ الكتب الفلسفية والعلمية لعلني أجد ضالتي ، فلم أجد جواباً مقنعاً لهواجسي ، من أنا؟ كيف أتيت ، ولماذا؟ إلى إين أنا ذاهب بعد الممات؟ وهل أنا وهمُ أم حقيقة ؟ وفي يوم من الأيام حكت لي حكاية لا أدري إنها حقيقة أم أسطورة أم من إبتكارالبشر ، فقالت : كان هناك ملك له إبن وحيد مدلل يأمر وينهي مثلما يشاء ، وفي احد الأيام وهو مع مرافقيه رأى نعشاً محمولاً على الأكتاف يسيرون به إلى المقابر إلى مثواه الأخير ، فقال لمرافقيه : ما هذا ؟ فلما شرحوا له الأمر الصادم ، إنزوى عن مباهج العالم الزائف ، واصبح ناسكاً يتعبد الله في إحد الكهوف ، تاركاً مباهج العالم وكنوز أبيه وملكه ، قائلاً ما دام هناك مثل هذه النهاية ، فما جدوى الجاه والمال والسلطان ، عندها تأملت في هذا العالم وقلت في نفسي : لم يتوصل لا الفلاسفة ولا العلماء إلى جوهر الحقيقة القاطعة المقنعة.
و ما دام هذا مصير كل البشر وكل كائن حي ، فلماذا أنا أقلق ، وما دام عدل الله لكل نفس حية عليها أن تموت يوماً ، ولم يستثنِ أحداً ، وهذا يعني ببساطة شديدة ، أن عدل الله تحقق بكل حرفية ، فأنا لست افضل من كل هذه الملايين بل المليارات التي عاشت على هذه الأرض طالت المدة أم قصرت كلها رحلت ، ولم يبقى منها إلا الذكرى .
فيا أمي العزيزة الغالية ، ها قد رحلت ولم يبقى منك إلا ذكراك العطرة ، وسوف لن ننساك ما دام فينا دم يسري وشريان ينبض ، فأنت كنت تعملين ليلاً ونهاراً لأجل راحتنا ، وتخدميننا بكل محبة جوارحك مجاناً دون مقابل ، فالوفاء لذكراك لا يمكن لكل كنوز الأرض أن تفي وتقدر تلك المحبة وذلك التفاني ، فهي كالأثار التي يحتفظ بها العالم والتي لا تقدر بثمن ، لذلك نحتفظ بذكراك ، عسى الله أن يغفر لنا ما فعلنا من تباطئء او تقصير بقصد او بغير قصد .
ولم يبقى لنا إلا أن نقول ، رغم العمر المديد الذي عشتيه معنا ، إنه كان حلماً جميلا ً ، ولكن عندما أفقنا رأينا إنه كان سراباً تلاشى بشبح الموت ، الذي لا مفرّ منه ، ومهما قلنا وكنا مؤمنين بحكمة الله فكان رحيلك المفاجئء صدمة كبيرة لنا ، فطوبى لمن رحل وترك أثراً طيباً في نفوس الآخرين ، وأنت يا أمي كلماتك وإبتسامتك البريئة أمام ناظرينا ،وخيالك في كل زاوية وركن ، وسنتذكرك كلما أشرقت الشمس ، وكلما غابت وراء الأفق ، وسنراك في كل إبتسامة طفل أو خرير الماء ، وزقزقة العصافير والحان البلابل ، وكل شيئ جميل خلاّب ، ولكن هذا يكفي ؟ ونطلب لكل من يقرأ هذا الرثاء ونرجوه أن يطلب لك ملكوت السماوات، ولكل الأمهات في العالم على قيد الحياة او على رجاء القيامة ، ونؤمن كمسيحيين إن لنا أمل في رجاء القيامة في أخر المشوار ، وهذا هو عزائنا العظيم .