بما أن السيادة الكوردستانية لا تعني إلا سلطة عليا ومطلقة وإفرادها بالإلزام وشمولها بالحكم لكل الأمور والعلاقات سواء التي تجري داخل الدولة أو خارجها ، فإن فكرة السيادة مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالفيلسوف السياسي والمفكر الفرنسي جان بودان (١٥٣٠-١٥٩٦) ، الذي كان مستشاراً لهنري الرابع ومن المعجبين بحكمه ، وهو صاحب "الكتب الستة للجمهورية" ، نشر من خلالها فلسفته لعالم مضطرب معتل يتلهف على النظام والسلام.
وفي العلاقات الدولية تعني السيادة الوطنية الحق المطلق علي الأرض والثروة والموارد بعد الإيمان الواثق نسبياً بإستمداد سلطة الحاكم من الشعب المتحرر من كل قيود وأسوار القمع المسوغ بالإطروحات الإيديولوجية المتزمة والقادرة على ممارسة حقوق التعبير والتنظيم وإختيار ممثلين لها للحكم.
وقد قرر ميثاق الأمم المتحدة مبدأ المساواة في السيادة بأن تكون كل دولة متساوية من حيث التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات مع الدول الأخرى الأعضاء في الأمم بغض النظر عن أصلها ومساحتها وشكل حكومتها، رغم إحتفاظ الدول الخمس العظمى لنفسها بسلطات ، ناقضة بذلك مبدأ المساواة في السيادة ، أما العُرف الحديث فلا تعرف للسيادة معني سوى لفظ إستقلال الدولة.
ومن يتمحص وينظر في الدستور العراقي لسنة ٢٠٠٥ يري بأنه يسمح لكوردستان بحق تقرير المصير، كما يعترف بحكومة و برلمان إقليم كوردستان وجميع مؤسساته الرسمية الأخرى ، وبالشكل ذاته يعترف بالبيشمركة كقوة شرعية لحماية حدود إقليم كوردستان باسم ( حرس الاقليم).
لكن الاستقلال يعني تحقيق الحلم التاريخي لشعب كوردستان ، ذلك الحلم الذي قدم الآلاف من ابناءه الغياري حياتهم لتحقيقه. شعب ناضل و كافح على مرّ السنين و تجرّع أقسى أنواع الظلم والإضطهاد والدكتاتورية والابادة الجماعية لاستقلاله يريد أن يكون فاعلاً على الساحة الدولية ومساهماً في إغناء الحضارة الإنسانية. اليوم يمتلك إقليم كوردستان كميات كبيرة من الثروات الطبيعية ، إذا ماتم مقارنتها بعدد سكانه، فما لديه من إحتياطي نفطي يقدر بـ ٤٥مليار برميل و احتياطي الغاز الطبيعي يبلغ (٥،٧ ترليون متر مكعب ) حيث تشكل نسبة ٣% من الاحتياطي العالمي للغاز الطبيعي، بالإضافة الي الأراضي الزراعية الخصبة والسدود القابلة لتخزين المياه والتي تستطيع أن تخزن أكثر من ١٠،٠٠٠مليار متر مكعب. علي القيادة الكوردستانية ، رغم معارضة بعض من الدول المجاورة لقيام الدولة الكوردستانية ومخاوف حرب داعش والجماعات الإرهابية الموجودة علي حدود الإقليم ، القيام بالتفكير الجديّ في قضية تحديد إسم ونظام الحكم في الدولة المستقبلية وحسم مصير المناطق الكوردستانية خارج إدارة الإقليم وتحديد حدوده أخيراً.
نحن نعرف بأن العلّة ليست دوماً في الخارج، بل إنـّها بالأحرى كامنة داخل العقول، أي في بنـية الثقافة ومنطـق الفكر ، لذا نراه لزاماً علي شعب كوردستان إنهاء العيش تحت راية خرافة العراق الموحد، فالإختلاف لا الخلاف هو الاصل في يقظة الوعي وتجدد الفكر وتطور الحياة ونحن نؤمن بالإختلاف.
ففي السنوات الماضية قام الإقليم ومن خلال مؤسساته الفعالة بإتباع سياسة براغماتية نجحت الي حد كبير في نسج علاقات مع أميركا وأوروبا، وعلى المستوى الإقليمي مع تركيا والأردن ودول الخليج العربي وإلى حد ما مع إيران وبهذه السياسة تمكن من خلق إستقرار و بيئة هادئة لإحتضان أكثر من مليون لاجيء ونازح ، ممن فرّوا ونجوا من أيادي الظلم والإضطهاد والإرهاب.
الكثير منّا يعلم بأن الشرق الأوسط الذي كنا نعرفه إنتهي بعد الحروب والتطورات الدراماتيكية التي شهدها وأن المنطقة الجغرافية التي كانت تسمي بالعراق والتي تواصل وجودها من الناحية القانونيَّة الان عبارة عن ثلاثة مناطق مختلفة للكورد والشيعة والسنة. بالأمس بعد أن خلقت الديمقراطية التوافقية إشكالات وعمقت الإنقسامات مهّد رئيس الوزراء الشيعي السابق نوري المالكي ، الذي لم يف في الماضي بوعوده للكوردستانيين، بسياساته الخاطئة الأرضية لداعش لإستيلاء الموصل و مناطق أخري في الرمادي بعد أن أزاح منافسيه من السنّة جانبا وقام بمقاضاتِهم في المحاكم باتهامات باطلة و دفع البعض منهم لمغادرة العراق وقام بمعاداة الكوردستانين وقطع حصتهم من الموازنة العامة بهدف تجويعهم.
أما اليوم فنرى المالكي يلعب دور المحتضن لبعض التيارات السياسية في كوردستان والناصح لشعب كوردستان ، الذي يري نفسه أمام فرصة تاريخية قد لاتتكرر لتحقيق حلمه القديم الجديد، بأن لايخطوا خطواته الجريئة نحو الإستقلال ، بل يظل تحت رحمة بغداد و إن أمكن تحت رحمة حزبه القابض علي الحكم في "العراق الفدرالي". في ضوء قراءة التطورات في العراق نري بأنه لا أمل في أن تتحسن الاحوال، ما دام الذين يحكمون في بغداد يديرون الشؤون بالمقولات والمعايير أو الأساليب والنماذج نفسها ، دون مراجعة شاملة لفتح ملف إنسانيتهم ، التي هي مصدر المشكلات والكوارث ومصنع الآفات والفضائح ، من غير ذلك، ستزداد الأمور سوءاً وتدهوراً وتتأجج الصراعات وتتوسع رقعة الحروب وتتفاقم أعمال القتل والابادة والتطهير والتهجير والتدمير، التي ذقناها و شاهدناها في السابق. فحصيلة سياساتهم في هذا العصر الرقمي وسط هيمنة الاحزاب الدينية وتسلط الميليشيات الطائفية كانت الكذب والنفاق والتزوير والإستقواء وانتهاك الدستور والقوانين، وبيع البلد والوطن بثمن بخس. وهل مـن تجاربنا نتعلم دون الوقوع في أسرها؟
وختاماً: إن الهوية ليست ما نرثه، بل ما نحسن إنجازه وأداءه، نحن لا نريد العودة الي الوراء ، رهاننا هو أن تتحول طاقاتنا إلى قوة مجتمعية فاعلة تفتح الابواب والفرص لبناء دولة كوردستان ، متحرّرة من وهم العراق الموحد والغول الديني، قوامها الإنفتاح على العالم المتحضر والديمقراطية الجذرية للوصول الي الأمن والإستقرار وبناء العيش الرغيد لمواطني كوردستان علي إختلاف أطيافهم وأجناسهم وحتي ثقافاتهم.