كان ذلك وبالضبط في ليلة الميلاد لسنة 1982..قبل عشرة ايام وصلنا الى مقر القاطع في كلي كوماتة والذي يقع مباشرة عند الحدود العراقية التركية عائدين من سوريا في رحلة مفرزة الطريق..ارتأت الامور ان تكون مغادرتنا لمقر القاطع نزولا الى الافواج ومنها الاول في الدشت هذا اليوم لسقوط كميات كبيرة من الثلوج في المنطقة وتجمع الانصار بعدد لا يتحمله المقر..منذ الصباح الباكر ليوم 24/12/1982 غادرت مفرزة تجاوزعددها الثلاثين عنصرا مقر القاطع لتعبر الخابور البسيط ثم السير نحو( القمرية)..كان الطريق مميتا وخطرا بسبب الطبيعة وما اسقطته من ثلوج قل مثيلها، فالطريق النيسمي ضاعت معالمه ونحن نسير نحو الشرق عبر جبال وعرة ووديان عميقة وبخط يوازي الحدود..كان اغلبنا متمرسا وقد استقى من رحلته الى سوريا الكثير من الدروس والعبر سوى بعض الانصار الذين التحقوا اخيرا..
قطعنا شوطا كبيرا من المشوار الذي علينا قطعه حيث علينا الوصول الى خرائب قمرية عصرا وثم وبعد ان يسدل الليل ستاره عبور الشارع المؤدي الى ناحية (كاني ماسي) والملغم دائما والمعروف ببساتين التفاح الرائع..كانت استراحة في غاية الاهمية حيث اصاب الاعياء والوهن اغلبنا بسبب كتل الثلج والصقيع اضافة الى ان اغلبنا محمل بالبريد والعتاد والسلاح الزائد..تناولنا ما كنا نقتنيه من الحلويات وقليل من الالبان والخبز..كنا قد تعلمنا من مشوارنا الى سوريا اهمية الوقت القصوى وعدم الاستهانة به وقد يكون سببا في فشل الرحلة وهلاك الكثيرين..كان الطريق مزعجا للغاية وكنا نتبادل في فتح الطريق الذي غطاه الثلج وكانت مهمة صعبة للغاية حيث تتشنج الاقدام ويصيبها الخدر ليس بسبب البرد لكن بسبب ثقل الصقيع وعلى الاقدام دفعه جانبا..ازداد تعقيد الطبيعة وطوبوغرافيتها كلما تقدمنا نحو الشرق وكنا نصادف سفوحا قاسيا يستحيل اجتيازها لولا التأني والدراية وكان الوقت قد ادركنا بعض الشئ ولهذا شحذنا الهمم واستعنا بالطاقة الكامنة لنصل الى القمرية ضمن الوقت المحدد..
كانت الساعة الخامسة مساء عندما وصلنا الى الدعامة الحدودية التي تطل على القمرية التي كانت تقع في صدر وهدة عميقة وعالية ومخيفة..علينا النزول تدريجيا للوصول الى اطلالها ومسجدها مستذكرين اهمية الوقت وعدم هدره مهما كان السبب..وصلنا اطلال القمرية وقررنا استراحة بسيطة حيث خلالها استعاد الانصار قليل من عافيتهم وتوضيح طريقة عبورنا لشارع التفاح الخطير والتأكيد على عامل الشجاعة والصمود والانتباه وتنفيذ الخطة..امامنا سير من خرائب القرية الى السلسلة الحادة التي تطل على الربية الخطيرة والمسيطرة على اختراقنا للسلسلة هبوطا الى قرية (تشيش) اكثر من نصف ساعة..تم الاستعداد بشكل جاد لأننا سندخل حيز الخطر والتواجد المكثف والمموه لأجهزة النظام وكيف سيكون السير والمسافة بين الانصار والى اخره وبعض الحيثيات يتحكم بها اللحظات الحاسمة..كانت ألوقت 5.30 عصرا عندما بدأت المفرزة بالسير جنوبا نحو الوادي السحيق والوعر حيث الكتل الصخرية الساقطة من الاعلى والثلج والصقيع والأشجار والسنون الصخرية الحادة التي تتطلب القفز نحو الاسفل..استمر السير نحو الاسفل عبر طبيعة صعبة ولا يمكن السير خلالها بحرية وسرعة وأخيرا تركنا سير الوادي واتجهنا يمينا لنسلك السفح الذي يقودنا الى السلسلة التي تفصل وادي قمرية عن سهل كاني ماسي اذا صح التعبير..وصلنا الى السلسلة وكان الليل قد ارخى سدوله ولم يعد باستطاعة الربية التي يفصلنا عنها بحدود الخمسين مترا رصدنا ومشاهدتنا..
اجتزنا السلسلة بسهولة وهنا بدأت الحيطة والحذر والسيطرة على المسافات والامتناع عن الكلام والتدخين وإزالة امان البنادق والتأهب لأي طارئ او كمين..هنا قل الصقيع وتحولت الارض الى شبه هضبة يكثر فيها الطين..قادنا السفح خلال عشرة دقائق الى ازقة قرية (تشيش) التي يسكنها مسيحيون كانوا مستعدين لاستقبال الميلاد يوم غد..كانت القرية في حالة ابتهاج واحتفال وروائح ونكهات الاطعمة وصوت الاغاتي يصدح لتهز كياننا المتصدع صادرة من كل بيت ونحن في حالة تأهب متأبطين السلاح ومحزمين بتلك الرمانات ومخازن الرصاص..صفحات الحياة المتناقضة دائمة تصادف من يعيش في مجتمعات يخيم عليها الجهل والصمت والخوف..كانت بطوننا خاوية والجوع والبرد والقلق يسود مشوارنا وهؤلاء البسطاء يعيشون لحظات فرح وحبور قد لا يتكرر وربما لا يستمر الى الصباح طالما هم قريبون من فوهة البندقية..اجتزنا ازقة القرية التي كانت منشغلة بفرحها دون ان تعير اهمية لمن يجتاز ازقتها من خلال نباح الكلاب الصاخب..كانت القرية قريبة جدا من الشارع ولا يفصلها عنه غير 20 مترا..
توقفنا خارج القرية ليكون امامنا المشوار الاخير وتم تحديد المجموعة التي تخترق ومن يؤمن عبورها بسلام فيما لو وقعت بكمين الذي قلما يغيب عن بساتين التفاح التي تقع الى الجنوب من الشارع المبلط الذي يؤدي الى ناحية (كاني ماسي)شرقا..وعند عبورها بسلام تتوزع لتحتل عدة نقاط لتؤمن عبور المجموعة التالية جنوب الشارع..انطلقت المجموعة الاولى فرديا والمسافة اكثر من 10 امتار بين نصير وآخر والهرولة بنصف قامة..عبرت المجموعة الاولى بسلام دون حدوث اي مكروه وبعد لحظات استعدت المجموعة الثانية واجتازت بسلام تلتها الثالثة والأخيرة واجتمعنا هناك بين اشجار التفاح العارية..قررنا الابتعاد بسرعة من المنطقة التي نحن فيها جنوبا نحو قرية (خشخاش)..تجاوزت الساعة الثامنة عندما انطلقنا الى قرية خشخاش وخلال نصف ساعة كنا في القرية وتوجهنا الى مسجدها الكبير..ماذا نفعل وكيف ننام في هذا البرد القاتل وماذا عن الطعام حيث لم يكن بمقدورنا طرق ابواب القرية بذلك الوقت المتأخر واغلب الناس نائمون..كانت ليلة نادرة في معاناتها وبردها وجوعها استطعنا الحصول على الحطب وأوقدنا مدفأة المسجد..قضينا ليلة تعيسة ولكن الذي منحنا العزيمة والإصرار والقوة عبورنا الهانئ والسليم الشارع الخطير الذي وقع بكمائنه الكثير من مفارز الانصار...........