تعتبر حضارة وادي الرافدين ضمن أقدم الحضارات فالحضارة السومرية والبابلية والآشورية قدمت للحضارة الإنسانية الكثير الكثير، ولا زالت آثارها في أشهر المتاحف العالمية، ولكن لا يجوز أن نبقى أسرى أمجاد تلك الحضارات التي سادت في حينها ثمّ خَبُأ ألقها ونامت، ولا يجوز لنا البكاء على الأطلال والتلذذ بمجد لم يعد له وجود وغدا أثراً بعد عين، والكف عن الحسرة والألم والحزن على ماضِ لم يبقَ منه غير أثارِ صماء لا تسمن ولا تغني عن جوع كما يقال، لكن بالعمل المثابر والتطلع إلى المستقبل بتخطيط علمي بعيد النظرة، وهناك أمثلة حية في التاريخ الحديث، فاليابان وألمانيا خرجتا من الحرب العالمية الثانية محطمتان إقتصاديا وعمرانيا، حيث تهدمت البنى التحتية فيهما وفرضت عليهما عقوبات، ولكنها الآن من أرقى الدول إقتصادياً وتقنياً .
لا ننسى أن ماضي الشخص يظلُ جزءاً من ذاكرته، يترسب في مخيلته وتطفو الذكريات إلى السطح أحياناً كشريط سينمائي، ولكن على الشخص نسيان الجزء المؤلم من ذلك الشريط لئلا يحكم ذلك الجزء نظرته إلى الناس أجمعين والحياة بشموليتها، لكي لا تترك أثاراً كارثية مدمرة على سلوكه وتصرفه تجاه الآخرين، ولكي لا ينظر بمنظار قاتم على الدنيا وما فيها، فالحياة فيها الجمال والسعادة والهناء ولكن للذي يستوعب الماضي بعمق ويبني عليه متطلعاً للمستقبل .
وزبدة الكلام: على أبناء شعبنا أحزاباً وجماعات الكفّ عن التغني بالأمجاد والبكاء والتلذذ بنجاحات أجدادنا في حقبة معينة من التاريخ الغابر، فقطار الحضارة ينطلق بسرعة فائقة وما علينا إلا شحذ الهمم بغية اللحاق به، وإلا سنكون قد فاتنا ونكون من المتخلفين وفي آخر سلم الحضارة والتقدم، ولا يفيدنا كون أجدادنا اصحاب حضارات راقية في حقبة معينة من التاريخ، فالفخر كل الفخر ليس لمن يقول كان لآبائي واجدادي كذا وكذا حضارة ، بل من يقول ها أنا ذا بالعمل والإثبات لا بالقول والكلمات الرّنانة الطنانة الجوفاء، التي لا طائل منها ، فنحن لم يكن لنا أي دور أو مساهمة في تلك الحضارات، فهل وصلت الرسالة ؟ نتمنى ذلك .