يُعتبرُ الشاعر الإنجليزي وليام بليك الأب الرّوحي للحركة الرّومانسية في الشعر الإنجليزي إلى جانب نظيره الألماني (غوته) ، و قد وَصَفَ النقّادُ بليك بالشّاعر المتصوف الفيلسوف الذي ينظر إلى بيئته بعين الإنسانية فيرى أن الإنسان مفطورٌ على الحبّ رَغم ما يظهِرُهُ مِنْ تَصَرّفات خِلافَ ذلك . و يرى بليك أنّ الشاعرَ الرّومانسي إذا لم يجعل الحبّ ثيمة أساسية للقصيدة فإنّ القصيدة ليست سوى كلام منمّقٍ منتقى .
يسبرُ بليك أغوارَ المشاعر معتمداً على انتقاء الشخصيات الضعيفةِ و المُستَغَلَّةِ مِنَ المجتمع فَيصوغَ لها حكايةً بسيطة مارّاً بها على أشجى الأوتارِ و أكثرها تأثيراً على عاطفة المتلقّي ، و بالتحديد شخصيات الأطفال ، فديواناهُ الشّهيران (أغاني البراءة و أغاني الخبرة Songs of Innocence and of Experience) يَقرآن العالمَ من وجهةِ نظرِ طفلٍ يتيمٍ بمنظورين مُختلفين، الأوّل حين كان الطّفلُ بريئاً و مُستَغَلّاً من المُجتمع ، و الثاني بعد نضوج الطفل و اطّلاعِهِ على البيئة المُحيطة و اكتسابِهِ الخبرة من خلال التجربة التي جعلته يَترَعرَع في دَهاليزِ الحياة المظلمة و إدراكه لقسوة العالم .
تُعَد قصائدُه مِنْ أكثر القصائد إغراقاً و صِدقاً بالعاطفة ، و تَعميقاً في الرؤية ، و تكثيفاً في الصورة ، و سلاسة في صوغِ العِبارة ، و بساطة في الموضوع ، و إثارة للشجن ، و إطلاقاً للأسئلة الوجودية ، فالسطر الأول من قصيدة ( الحَمْل The Lamb ) التي هي إحدى قصائد الديوان الأول "أغاني البراءة" على سبيل المثال لا الحصر
Little Lamb who made thee
أيُّها الحَمْلُ الصَّغير مَنْ الذي خَلَقَك
يُطْلِقُ بِهِ من أعظم الأسئلة الفلسفية الوجودية إن لم يكن أعظَمَها ، و يعودُ بَعدها مُجيباً بما تَلَقَّاهُ مِن إيمانٍ على ألسِنَةِ الوُّعَّاظ
Little Lamb I'll tell thee
He is called by thy name ,
أيُّها الحَمْلُ الصَّغير أنا سأُخبِرُك
إنِّهُ مُسَمىً باسمِك•
و قد قابَلَ بليك قصيدة "الحَمْل" بقصيدة "النّمر The Tyger" في ديوان "أغاني الخبرة" ، فتَمَثّلَ هُنا الإعجابُ بالقوَّةِ و الضّراوة و السّيطرة
Tyger Tyger , burning bright ,
In the forests of the night ;
What immortal hand or eye,
Could frame that fearful symmetry ?
يا أيُّها النّمر المُتَوَهِّجُ اشْتِعالاً
في غابات اللّيل
أيُّ يَدٍ سَرمَدِيّةٍ و أَيُّ عَين
صَوَّرَتْكَ بِتَناظُر الخوف ؟
و راحَ يسألُ مُقارِناً "هل خالقُ الحَمْل هو ذاته الذي خَلَقَ النّمر؟"
Did he who made the Lamb make thee ?
أَخالِقُ الحَمْلِ خَلَقَك ؟
فَينمو هُنا الإدراكُ ليسألَ سؤالاً وجودياً آخر مُبَطَّناً معناه "هل أنّ الذي خَلَقَ الخيرَ هو ذاته الذي خَلَقَ الشّر؟" ، ليدرُجَ بَعدَها كُلَّ إيجابِيّ بقائمةِ "الحَمْل" و كلّ سلبي بقائمةِ "النَّمر" .
و يجدُ القارئُ رَغمَ التّقسيمِ بينَ النَّقِيضين أنّ الشّاعِرَ قد أظهرَ إعجاباً غَيرَ مُباشِرٍ بِوَصْفِهِ للنمر ، و يُقابل المعنى المُدْرَكُ هنا في الإعجاب بيتَ شِعرٍ لأبي الطّيبِ المُتَنَبّي :
وَ الظُّلمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ
ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْــلِـــــمُ
أما عَن الإغراقِ في العاطفةِ و الصّدقِ في المشاعر فالشّخصيةُ المُتَخَيَّلة في قصيدة (كنّاس المداخن The Chimney Sweeper) التي تأخذ أسلوبَ "الشّخص الأول" _المُتَحَدِّث أو الرّاوي _ في السّرد الدرامي تكاد أنّ تُجَسّدَ الحُزنَ و الألمَ و الأسى للحياة في أوربّا أثناء الثورة الصناعية ، فتَبدأُ بالسّردِ من دونِ أيّ مقدمات أو محاولات للتخفيف من وطأة الحُزن :
When my mother died I was very young
عندما ماتت أمي كُنتُ صغيراً جدّاً
يَقولُها رَغمَ الألمِ و الدّموعِ المُصاحبين لِكلامهِ بنبرةٍ واضِحَةٍ دليلاً على أنّ النّاسَ مِنْ حولهِ غَيرُ مُهتَمِّينَ بهِ و بِمَنْ على شاكلتهِ مِنَ الأطفال ، ثمّ يستمر ليزيدَ من نبرة البؤس :
And my father sold me while yet my tongue
Could scarcely cry weep! weep ! weep ! weep !
فباعني والدي إذ كان لِساني
بالكادِ يبكي وي وي وي وي•
ليغوصَ بكلّ بساطة في أعماق المشاعر و يرسمُ الشَّفَقَةَ بريشَةِ الشّاعر الرّومانسي دون اللّجوء إلى الصّنعة و الهروب إلى القوالب الجاهزة ، و هكذا نجد أنّ بليك الشاعر الإنسان لم ينطلقْ في أعظم أعمالهِ الشعريّة إلّا مِنْ أبسط الموجودات مُحَلِّقاً بِشاعريَّتِهِ و أُسلوبِهِ الفَرِيد في فضاء الغيبيّاتِ بِجَنَاحَي البراءةِ و الخبرة ، مُعَلِّلاً لِنَفْسِهِ تَارَةً باليَقِين ، و مُستَفْسِراً تارَةً أخرى عن السّبب ، و راضِياً بما هو عليهِ مُتَعايشاً معهُ قَدْرَ المُستَطَاع .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ