قناة عشتار الفضائية
 

أرباح الكارثة وخسائر الأمل... لماذا تجذبنا الأخبار السيئة؟

 

عشتارتيفي كوم- اندبندنت/

 

عندما تقع الكارثة، سواء كانت طبيعية أم بسبب البشر، تتجه أنظار الجميع نحو شاشات الهواتف والتلفزيون ومواقع الأخبار العاجلة لأسباب كثيرة، منها الفضول والقلق والرغبة في فهم ما يجري والاطلاع عليه، أو ربما للهرب من واقعنا إلى واقع بشر آخرين. لكن أبحاث علوم الدماغ اكتشفت أن دماغنا يحب الخطر، وهذا ما يخلق لدينا جاذبية نفسية للخبر السيئ، وفي دراسة نشرت عام 2014، تبين أن القشرة الحزامية الأمامية واللوزة الدماغية تنشطان أكثر عند سماع خبر سيئ مقارنة بخبر جيد، وكذا تبين أن انجذابنا هذا هو خاصية تطورية ورثناها من أسلافنا الذين حافظوا على بقائهم، لأنهم انتبهوا إلى صوت الأسد أكثر من تغريد العصافير مثلاً لكي ينجوا بحياتهم في لحظات الخطر، الذي بات يظهر الآن في نشرات الأخبار معيداً نظامنا الغريزي إلى العمل بقوة من جديد.

 

نحو الاكتئاب

في أبحاث أجريت على أدمغة عدد كبير من المتطوعين، أظهرت أجهزة الرنين المغناطيسي أنهم يحتفظون بالمعلومات المتعلقة بأخبار ومشاهد خطرة مثل عملية إرهابية أو قصف مدنيين لفترة أطول من الأخبار الجيدة، ويعيدون سردها بتفاصيل أكثر من أخبار إيجابية كفوز رياضي أو مبادرة إنسانية. هذا في ما يخص الدماغ. أما علم النفس فبات يسمي مثل هذا التحفز للأخبار غير السارة بالتلصص العاطفي أو متعة الألم من بعد، فنحن لا نتابع الشر بدافع الخوف فحسب، بل وبدافع اللذة، وهذا ما يسميه علماء النفس بـ"الفضول العاطفي" أو "التلصص العاطفي" (emotional voyeurism) لأن الكوارث والجوائح تتيح لنا اختبار الألم من دون أن يمسنا. على سبيل المثال في زلزال هايتي عام 2010، لاحظ الباحثون أن المتابعين لمثل هذه الأخبار يبحثون عن الاطمئنان والشعور بأنهم أفضل حالاً من غيرهم. وكأن مقارنة أوضاعنا بمن أصابتهم الكارثة تمنحنا جرعة من الأمان.

وظهرت حال سماها علم النفس بـ"القلق الإخباري" في مجتمعات تعاني تدفق الأخبار السلبية. وبينت دراسة في جامعة تورنتو عام 2022 أن من يتابع الأخبار أكثر من ساعتين يومياً أكثر عرضة للاكتئاب بنسبة 28 في المئة من الآخرين، الذين يسيرون في الطبيعة أو ممن يشاهدون أخباراً مفرحة، وبالعودة إلى علم الدماغ فإن التعرض المستمر للخوف ينشط اللوزة الدماغية والحصين، مما يؤدي إلى فرط الاستجابة للضغط العصبي، وهذا يؤدي بدوره إلى انتشار مرض العصر، أي الاكتئاب واضطرابات القلق المزمنة.

بدوره كان لعلم الاجتماع رأيه بالاكتئاب الجماعي الذي ينتج من شعور مزمن بعدم السيطرة، تغذيه التغطيات الإعلامية التي تعرض الخطر من دون أفق للحل، فقد وجد باحثو علم الاجتماع أن المجتمعات المتأثرة بهذا الاكتئاب تفقد تماسكها وتدخل في عزلة جماعية، حتى إن منظري الأديان السماوية الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية، بدأوا يحذرون من المتابعة الدائمة للأخبار السوداء التي تفقد الإنسان توازنه الروحي، لأن الإيمان يدعو إلى الأمل وتثبيت السلام الداخلي، ما دام استهلاكنا لأخبار الشر يفسد علينا نعم الوجود وجمال الخلق.

 

أرباح الخوف

أما من وجهة نظر الإعلام فإن سوق الأخبار السلبية مزدهر، وهي تنتشر بنسبة 64 في المئة أكثر من الأخبار الإيجابية على وسائل التواصل، بحسب دراسة من جامعة "هارفرد"، أفادت أيضاً بأن الصحف الصفراء ومواقع وصفحات العناوين المثيرة في وسائل التواصل تعرف أن الخوف يساوي أرباحاً. مثلاً أثناء جائحة كورونا تصدرت العناوين التي تبرز عدد الوفيات والخسائر الاقتصادية أعلى نسب القراءة والمشاركة، بينما بقيت أخبار الشفاء أو التعاون الدولي هامشية. دراسة لـMIT عام 2018 وجدت أن الأخبار الكاذبة تنتشر أسرع ست مرات من الحقيقية. والسبب أنه خلال أوقات الأزمات، يتحول البث المباشر إلى عملية تغذية بالهلع.

دراسة Nielsen خلال جائحة "كوفيد-19" أظهرت ارتفاع نسبة المشاهدة للأخبار بـ73 في المئة خلال الأسابيع الأولى، وفي مثال آخر تجاوزت التغطية الإعلامية عند وقوع الزلزال في تركيا وسوريا خلال فبراير (شباط) 2023 ملايين المشاهدات خلال ساعات قليلة، وتدفقت القصص المصورة من تحت الأنقاض. وفي حادثة غرق عبارة "السلام 98" المصرية عام 2006، تابع الملايين تفاصيل المأساة على رغم البعد الجغرافي من الحدث. فالكارثة خلقت لحظة جماعية من التفاعل العاطفي الحاد.

ولابد من الإشارة إلى أن أخبار الحروب تلقى رواجاً وتنتج أرباحاً لوسائل الإعلام. ووفقاً لجامعة "كامبريدج"، تباع الإعلانات خلال الأزمات بمعدل أعلى بـ3.4 مرة. شركات الإعلانات تحجز مساحاتها عند الذروة. وهذا ما يسمى "اقتصاد الخوف". على سبيل المثال، حُملت تطبيقات الأخبار مثل CNN App وBBC News بأكبر معدل تحميل في ذروة وباء كورونا وأثناء الحرب داخل غزة.

لكن الحروب نفسها وليست أخبارها فقط تنشئ اقتصاداً موازياً تماماً، فكل تصعيد عسكري يعني أرباحاً لشركات السلاح وشركات إعادة الإعمار، تماماً مثل تعاقدات اللقاحات عند انتشار الأمراض، فأية كارثة يمكنها أن تخلق اقتصاداً موازياً. وخلال عام 2023 وحده تجاوز الإنفاق العسكري 2.24 تريليون دولار. وبعد تسونامي عام 2004 أجلي آلاف الصيادين الفقراء من شواطئهم في سريلانكا، واستبدلت المنتجعات السياحية بمخيماتهم، وهكذا أفاد التسونامي أصحاب الشركات العقارية والسياحية.

وتخلق الكوارث اقتصاداً طارئاً من أسواق السلاح إلى الإعمار والمساعدات وصناعة الإعلام. فالحربان الروسية–الأوكرانية، والإسرائيلية في غزة، أنعشتا وحدهما أسهم شركات السلاح مثل Raytheon وLockheed Martin. وفي تسونامي اليابان عام 2011، ارتفعت أسهم شركات البناء بنسبة 17 في المئة خلال أسبوع. أما في المغرب بعد زلزال الحوز عام 2023، انتعشت تجارة مواد البناء والمقاولات الصغيرة على رغم الخسائر الشعبية.

 

رأسمالية الكوارث

في كتابها الشهير "رأسمالية الكوارث"، قامت الكاتبة نعومي كلاين بطرح فكرة الصدمة كأداة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي. وهي لا تتحدث فقط عن الصدمة الفردية، بل عن الصدمة الجماعية التي تصيب الدول والشعوب بعد الحروب والانقلابات أو الكوارث الطبيعية، فتتحول إلى لحظة مناسبة لإعادة برمجة المجتمع اقتصادياً. ووجدت الكاتبة أن كل أزمة سواء كانت طبيعية أو مصطنعة هي فرصة لتطبيق سياسات اقتصادية لم يكن من الممكن تمريرها ضمن الظروف الطبيعية.

يقول ميلتون فريدمان "فقط الأزمة، سواء كانت حقيقية أو متصورة، هي التي تنتج تغييراً حقيقياً. فبعد إعصار كاترينا عام 2005، لم يعد بناء النظام التعليمي العمومي في نيو أورلينز، بل خصخص بالكامل. وفي تشيلي بعد انقلاب بينوشيه فرضت إصلاحات نيوليبرالية متطرفة كتبها طلاب فريدمان في جامعة شيكاغو. وفي العراق، خصخصت الدولة بأكملها تقريباً بعد الغزو الأميركي، بما في ذلك القطاعات السيادية كالنفط والمياه".

تصنع الكارثة الهوية الجماعية وتوحد المجتمعات ضد عدو آخر غالباً ما يكون مبهماً، فبعد الـ11 من سبتمبر (أيلول) قفز الشعور بالإسلاموفوبيا بنسبة 1600 في المئة داخل الولايات المتحدة خلال ثلاثة أشهر فحسب. ويضاف إلى كل ذلك أن التعرض المستمر للأخبار غير السارة والسلبية والشريرة يخلق حالاً من عدم الثقة تؤدي إلى تقبل نظريات المؤامرة والاعتقاد أن "السلطة" تخفي شيئاً.

وفي دراسة لجامعة "أكسفورد" خلال جائحة كورونا، تبين أن متابعي الأخبار كانوا أكثر ميلاً للاعتقاد أن فيروس كورونا صُنع وسُرب بين الناس للتخلص من المسنين. وزادت العنصرية ضد الآسيويين في أوروبا بمعدل

ثلاثة أضعاف وفق دراسة لـAmnesty UK. وفي لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020 ظهرت عشرات نظريات المؤامرة، من أسلحة كيماوية إلى تورط قوى دولية. هذا نتيجة إدراك مضلل تغذيه الفوضى.

كان عالم الاجتماع الألماني دوركهايم شرح كيف أن المجتمعات تنتج خلال أوقات الخطر "تلاحماً ميكانيكياً" أو نوعاً من الوحدة المبنية على المعاناة المشتركة، لكن هذا التلاحم غالباً ما يحتاج كي يُبنى إلى وجود عدو، سواء كان منظوراً أو خفياً، حقيقياً أو موهوماً.

لذا فإن الشر الذي نشاهده يومياً ليس مجرد أمر عابر، أو نقلاً للواقع، بل هو منتج ثقافي وإعلامي واقتصادي نستهلكه ونعيد إنتاجه حتى ليبدو أحياناً أنه صار نظاماً يومياً تغذيه وسائل الإعلام، وتتغذى منه الاقتصادات، وتتشكل حوله جماعات كاملة من الناس.

 

سرديات الشر

يؤدي تكريس فضاء الخوف الإعلامي إلى خلق الحاجة إلى زعيم قوي لدى الجماعة المعرضة للخوف والتخويف، وهي سياسة أُطلق عليها اسم "الشعبوية"، أي تعبة الجماهير بأخبار توحدهم كجماعة. مثلاً جاء صعود ترمب ولوبان وبولسونارو مرتبطاً بسرديات إعلامية ضخمة عن "الخطر القادم"، سواء من المسلمين أو المهاجرين أو من المنظومة الحاكمة، سواء كانت ظاهرة أو تلك التي يشاع أنها تدير البلاد بالسر في ما يسمى "الدولة العميقة"، خصوصاً أن وسائل الإعلام لا تنقل الحدث فحسب، بل تخلق بطلاً ومذنباً عبر إعادة إنتاج خطاب الكراهية، وفي ظلال هذا الخطاب والفوضى النفسية والاجتماعية الناتجة منه تمرر مشاريع الخصخصة والتقشف، والقوانين الاستثنائية.

خلال أزمة اليونان مثلاً استخدم الخوف لفرض سياسات تقشفية غير شعبية، وعبر عملية التكرار يتحول الخبر الشرير إلى بنية، فلا يرى المتلقي العالم كما هو بل كما صاغته له الأخبار، وبينت مذبحة المسجدين في نيوزيلندا التي وقعت عام 2019 أن المجرم الذي صور جريمته بكاميرا معلقة على بندقيته وبدم بارد، كان مستهلكاً شرهاً لمحتوى يميني متطرف على الإنترنت.