عشتارتيفي كوم- سيرياك برس/
طورعبدين ─ على مرتفعات طورعبدين جنوب شرق تركيا، يقف دير مار كبرئيل شامخًا كواحد من أقدم الأديرة المسيحية في العالم وأكثرها استمرارية. منذ تأسيسه عام 397 ميلادية، لم يتوقف هذا الصرح الروحي عن أداء رسالته الدينية والثقافية، متحديًا الحروب والاضطرابات ومختلف التحديات التي عصفت بالمنطقة عبر العصور.
تأسيس وبدايات مضيئة
يرجع تأسيس الدير إلى الراهبين مار صاموئيل ومار شمعون، اللذين وضعا أساساته ليكون مركزًا للرهبنة والعبادة، ووجهة لطلاب العلم اللاهوتي من أنحاء المنطقة. ومع مرور الزمن، ذاع صيت الدير في العالم المسيحي القديم، حتى أصبح محطة بارزة في تاريخ الكنيسة السريانية الأرثوذكسية.
خلال القرون الأولى، حظي الدير برعاية الأباطرة البيزنطيين، الذين ساهموا في توسع مبانيه وتزيين قلاياه (غرفه) وكنائسه. وتحت أيدي المعماريين والحرفيين المهرة، نشأت فيه تحف معمارية من فسيفساء وقباب وأبراج وأروقة، ما زالت شاهدة على ذوق فني رفيع وروحانية عميقة.
من دير صاموئيل وشمعون إلى دير مار كبرئيل
عرف الدير عبر تاريخه الطويل بأسماء متعددة، في البداية كان يُسمّى دير مار صاموئيل ومار شمعون، ثم أُطلق عليه اسم “دير العُمر” و”دير قرطمين” نسبة إلى القرية المجاورة، أما اسمه الحالي، فيرتبط بالقديس مار كبرئيل، أسقف طورعبدين في القرن الـ 7، الذي اشتهر بمعجزاته وتقواه، حتى صار رمزًا روحيًا محوريًا للدير وللمنطقة بأسرها.
مار كبرئيل، الذي وُلد عام 574 ميلادية في قرية بيث قسطان، كرّس حياته منذ شبابه للعبادة، وترك أهله ليتتلمذ على يد ناسك فاضل، وبعد سنوات من النسك والتعلّم، انتقل إلى دير مار شمعون، حيث برز بتواضعه وخدمته، ليصبح رئيسًا للدير ثم مطرانًا للأبرشية حتى وفاته في 23 كانون الأول عام 667. ارتبطت سيرته بقصص ومعجزات كثيرة، من أشهرها قصة التاجر العربي الذي استعاد أمانته بعد أن صلّى القديس عند قبر راهب راحل، فشهد التاجر المعجزة وآمن وترهّب في الدير.
معمار وفن عبر العصور
يمتاز دير مار كبرئيل بتصاميم معمارية متنوعة، تعكس فترات البناء المتعاقبة على مدى 16 قرنًا، ففيه قباب رشيقة وأبراج عالية وأبواب خشبية منقوشة بدقة، وأروقة تزينها أعمدة حجرية متناسقة، وتوجد بداخله قطع فسيفسائية بيزنطية نادرة من القرنَين الـ 5 والـ 6، بألوانها الزاهية وزخارفها الدقيقة التي تجسد مشاهد رمزية مسيحية.
كما يحتفظ الدير بكنوز من التراث الكنسي، من مخطوطات قديمة وأناجيل مزخرفة، إلى أدوات طقسية فضية وذهبية، ما يجعله متحفًا حيًا للثقافة السريانية والتراث البيزنطي.
تحديات البقاء
لم يكن بقاء الدير وصموده طوال هذه القرون أمرًا سهلاً، فقد تعرّض في مراحل مختلفة لهجمات وغزوات، وتضررت مبانيه خلال الحروب، كما صودرت بعض أراضيه، ورغم ذلك، ظل الرهبان متمسكين برسالتهم، يعيدون ترميم ما تهدم، ويحافظون على طقوسهم وصلواتهم اليومية.
في العقود الأخيرة، واجه الدير نزاعات قضائية حول ملكية أراضيه، لكنه استطاع أن يثبت أحقيته بها بفضل الجهود القانونية ودعم المجتمع المحلي والدولي، مما سمح له بمواصلة دوره كمركز ديني وثقافي نشط.
مركز روحي حي
اليوم، لا يزال دير مار كبرئيل مقصدًا للحجاج والزوار من مختلف أنحاء العالم، خاصة في عيد القديس مار كبرئيل، الذي يُقام سنويًا في 31 آب، حيث تتوافد الجموع من قرى طورعبدين والمهجر للمشاركة في القداس الاحتفالي، وتعلو الأناشيد والتراتيل السريانية في أجواء روحانية مؤثرة.
إلى جانب دوره الديني، يقوم الدير بدور ثقافي وتعليمي، حيث يتعلم فيه الأطفال والشباب اللغة السريانية، وتُحفظ فيه المخطوطات والتراتيل التي تشكل ذاكرة الكنيسة السريانية عبر العصور.
إرث خالد
يُعتبر دير مار كبرئيل أقدم من دير سانت كاترين في سيناء (مصر)، وأقدم بنحو 4 قرون من أديرة جبل آثوس في اليونان، ما يجعله واحدًا من أندر الأديرة في العالم التي حافظت على تقاليدها الرهبانية دون انقطاع تقريبًا، وهو شاهد حي على قدرة الإيمان على الصمود أمام عوادي الزمن، وجسر يربط بين المسيحية الشرقية وتراثها العريق.
وبين جدرانه الحجرية العتيقة، تختزن القلاية (الغرفة) والكنيسة وصوت الأجراس حكاية 16 قرنًا من العبادة والخدمة، لتبقى رسالة دير مار كبرئيل حيّة للأجيال القادمة، وهي أن “الروحانية الحقيقية قادرة على تخطي حدود الزمان والمكان“
|