قناة عشتار الفضائية
 

دفاع ترامب عن المسيحية: نافذة تاريخية لمسيحيّي لبنان

 

عشتار تيفي كوم - نداء الوطن/

بقلم : بشارة جرجس

تتزايد تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الداعمة علناً للهوية والتقاليد المسيحية. فقد أعلن ترامب بوضوح أن إدارته لن تتسامح مع أي استهداف للمسيحيين أو تهميش لهم، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها. تأتي هذه التصريحات في سياق أوسع لتحول الإدارة نحو الدفاع الصريح عن الوجود المسيحي وحقوق المؤمنين، وهو تطور ذو أهمية بالغة بالنسبة لمسيحيي الشرق الأوسط عموماً ولبنان خصوصاً. فالمشهد اللبناني الحالي، حيث يشعر المسيحيون بقلق وجودي جراء اختلال التوازنات، يجعل من الدعم الأميركي عاملاً إيجابياً لطمأنتهم وضمان استمرار دورهم التاريخي. ولعل هذه المواقف الأميركية تعيد إلى الأذهان صفحات من العلاقة الخاصة بين واشنطن والمسيحيين اللبنانيين، حيث تدخلت الولايات المتحدة لحماية استقرار لبنان ذي القيادة المسيحية كما حدث بإرسال قوات المارينز عام 1982 لدعم الحكومة اللبنانية وسط حرب أهلية طاحنة، وقبلها عندما نزلت القوات المسلحة الأميركية على الشواطئ اللبنانية في 1958 لدعم سلطة الرئيس كميل شمعون ضد القوى المدعومة من اليسار المسلم آنذاك في سوريا ومصر.

 

اليوم، يُعوَّل أن يشكّل توجه ترامب بارقة أمل للبنانيين المسيحيين لتعزيز حضورهم وحماية حقوقهم السياسية.

لم تأتِ مواقف ترامب الأخيرة من فراغ، بل انسجمت مع سلسلة تصريحات وقرارات تعكس دفاعاً صريحاً عن المسيحيين وقيمهم. فقد دأب الرئيس الأميركي على مخاطبة المحافظين بالقول إنه يدرك أنهم تحت الحصار، متعهداً بأن تكون من أولى خطوات ولايته تشكيل فريق عمل لاجتثاث التحيّز ضد المسيحيين. وبالفعل أعلن ترامب نيته توقيع أمر تنفيذي يوجّه المدعي العام إلى إنشاء فريق عمل فيدرالي خاص لمواجهة أي انحياز أو تمييز ضد المسيحيين داخل أجهزة الحكومة. وأوضح أن الهدف هو وقف جميع أشكال الاستهداف والتمييز ضد المسيحيين داخل الحكومة الفيدرالية. هذه الخطوة غير المسبوقة تؤكد أن حماية المؤمنين باتت سياسة رسمية للإدارة.

 

من جهة أخرى، شدّد ترامب على إيمانه بأن الحرية الدينية جزء جوهري من الهوية الأميركية ويجب الدفاع عنها عالمياً. ففي إحدى خطاباته أمام الأمم المتحدة دعا بصوت واضح حكومات العالم إلى إنهاء اضطهاد أصحاب الإيمان، قائلاً إن “أميركا تقف مع المؤمنين في كل بلد يطلبون فقط حرية العيش وفق إيمانهم”. كما ذكّر بأن الدفاع عن الحرية الدينية كان دائماً أولوية في سياسته الخارجية، مبرزاً دور إدارته في إطلاق تحالف دولي لحماية حرية المعتقد. وعلى الصعيد الداخلي، حرص ترامب على طمأنة المسيحيين بأن إدارته ستحمي حقهم في ممارسة شعائرهم وهويتهم الدينية بلا خوف أو تمييز، إذ صرّح مراراً "سندافع عن الأميركيين المسيحيين ونحترم إيمانهم" معتبراً أن المسيحية “تحت حصار” يجب رفعه. ولم يتردد كذلك في التأكيد على إعادة الاعتبار للتعبيرات الدينية في الفضاء العام الأميركي (مثل تهنئة عيد الميلاد) كجزء من مواجهة ما يصفه بتآكل الهوية الروحية لأميركا.

 

وإلى جانب ترامب، عبّر مسؤولون في إدارته عن التزام مماثل. فقد أعلن نائبه جي. دي. فانس أن الإدارة ستواصل إعطاء الأولوية لتعزيز الحرية الدينية محلياً ودولياً. وأشار فانس إلى أن ترامب خلال ولايته الأولى دعم المؤمنين المضطهدين حول العالم، بما في ذلك “إنقاذ القساوسة المضطهدين، وتقديم الإغاثة للجماعات الدينية التي روّعتها داعش”. كما أكّد أن الإدارة تعتبر الدفاع عن الحرية الدينية ليس مجرد مبدأ قانوني فحسب، بل “واقعاً حيّاً داخل حدودنا وخارجها”. هذه المواقف وغيرها تُظهر سردية واضحة: الولايات المتحدة بقيادة ترامب ترى نفسها نصيراً صريحاً للمسيحيين في العالم، وحامية لقيم الحرية الدينية كمكوّن أساسي من مكوّنات عالم حر وآمن.

 

فرصة تاريخية لمسيحيي لبنان؟

في ضوء هذا التحوّل الأميركي، يجد المسيحيون اللبنانيون أنفسهم أمام لحظة مؤاتية لم تتح منذ عقود طويلة. فالزخم الذي أوجدته إدارة ترامب دفاعاً عن الوجود المسيحي يمكن أن يشكّل رافعة لمطالب ومشاريع كانوا ينادون بها لتعزيز وضعهم وضمان مستقبلهم في بلد متعدّد الطوائف والمشاريع والمغامرات. على القيادات السياسية والروحية المسيحية في لبنان أن تستثمر هذه اللحظة بحنكة، حكمة، ومسؤولية. لقد رفع ترامب السقف عالياً بإعلانه الوقوف في وجه التحيز ضد المسيحيين واستعداد إدارته لنصرتهم. وعليه، فإن الكرة الآن في ملعب القادة المسيحيين اللبنانيين، وفي مقدمتهم البطريركية المارونية وزعماء الأحزاب ذات الثقل مثل حزب القوات اللبنانية، ليلاقوا واشنطن في منتصف الطريق.

 

بدايةً، يتوجب توحيد الرؤية والصف المسيحي الداخلي حول مشروع سياسي واضح يُظهِر للعالم، وللولايات المتحدة تحديداً، ماذا يريد المسيحيون اللبنانيون فعلياً. لقد عانى مسيحيو لبنان طويلاً من الانقسامات والتجاذبات، لكن الدعم الخارجي لا يمكن أن يُثمر إذا لم يتبلور موقف مسيحي لبناني موحّد أو على الأقل منسّق. مشروع الفيدرالية الذي يدور الحديث حوله في الأوساط المسيحية يمكن أن يكون ورقة جوهرية في هذا السياق. فهذه الفكرة، التي تقوم على إعادة توزيع السلطات في لبنان عبر نظام فيدرالي يمنح كل مكوّن قدراً أكبر من الحكم والأمن الذاتي، تحظى بتأييد شريحة واسعة من المسيحيين.

 

من هذا المنطلق، يُفترض بالقيادات المسيحية أن تصوغ رؤيتها للفيدرالية أو الكونفدرالية، أو أي صيغة حكم ذاتي، بلغة المصالح الوطنية والأميركية المشتركة، وتطرحها على طاولة البحث الداخلي ومع الشركاء الخارجيين. الكنيسة المارونية تحديداً يمكنها لعب دور جامع، وهي التي طرحت مؤخراً مفهوم حياد لبنان عن صراعات المحاور كمدخل لحمايته. فالحياد الإيجابي الذي ينادي به البطريرك بشارة الراعي قد يشكّل خطوة أولى باتجاه ترتيبات سياسية جديدة، وربما يُعَبِّد الطريق نحو حل فيدرالي داخلي كما ألمح بعض الخبراء. على البطريركية والقوى السياسية المسيحية الكبرى أن تبلور معاً خارطة طريق إصلاحية، كإقرار اللامركزية الموسعة المنصوص عليها في اتفاق الطائف كمرحلة أولية تحضيرية، ويتوجهوا إلى واشنطن طالبين الدعم المعنوي والمادي لمشروع الإدارة السياسية الذاتية. الدعم الأميركي هنا قد يكون سياسياً ودبلوماسياً أكثر منه مادياً، لكنه حاسم في توفير مظلة حماية وضغط لتحقيق هذه الإصلاحات.

 

ولا بد من الإشارة إلى مسؤولية خاصة تقع على حزب القوات اللبنانية وحلفائه ممن يرفعون لواء السيادة والإصلاح. فتاريخياً، لطالما نظرت الأحزاب المسيحية اللبنانية إلى الغرب، والولايات المتحدة تحديداً، كشريك وضامن لحريتهم في منطقة عاصفة. اليوم تتقاطع مصلحة هذه القوى مع أجندة إدارة ترامب في كبح نفوذ الجماعات المتطرفة والميليشيات المدعومة من أنظمة تخريبية. من هنا، فإن على قيادات مثل الدكتور سمير جعجع أن يستغلوا المناخ الدولي المناسب. يتطلب الأمر تكثيف التواصل مع الإدارة الأميركية وعرض القضية، بما فيها الخطر الوجودي على المسيحيين، كجزء من معركة أوسع لحماية التنوع الديني في الشرق لا سيما المشرق. وعلى هذه القيادات أن تظهر استعدادها أيضاً للقيام بخطوات إصلاحية شجاعة في الداخل (كمحاربة الفساد وتحسين الحوكمة) كي تكسب ثقة ودعم الأصدقاء الدوليين. بكلمة مختصرة: أمام مسيحيي لبنان نافذة تاريخية نادرة، وعليهم أن يثبتوا أنهم شريك جدي يمكن الاتكال عليه إذا ما قُدّم له العون.

 

دعم الفيدرالية لحماية الأقليات في المنطقة

ثمة إدراك متزايد في دوائر صنع القرار الأميركية بأن النماذج المركزية الصارمة في دول المنطقة همّشت المكوّنات المؤسِسة لحضارات المشرق، وجعلتهم عرضة للعنف والتهجير. من هنا برزت خلال الأعوام الأخيرة طروحات لامركزية وفيدرالية كحلول مطروحة في بلدان عانت من الصراعات الطائفية وتجاذبات المشاريع والمشاريع المضادة. على سبيل المثال، في العراق وبعد القضاء على تنظيم داعش، تعالت الدعوات، بدعم ضمني من مسؤولين أميركيين، لإنشاء إقليم إداري في سهل نينوى خاص بالمسيحيين والإيزيديين وسواهم. الهدف كان تمكين هذه الجماعات من إدارة شؤونها وتأمين حمايتها محلياً ضمن إطار الدولة الاتحادية العراقية، بحيث يتم وقف نزيف الهجرة وضمان وجود دائم لهم في موطنهم التاريخي. وقد أيّد حتى رئيس الوزراء العراقي آنذاك حيدر العبادي مبدأ توسيع اللامركزية محذراً من أن عدم الذهاب إلى حلول حكم ذاتي قد يفضي إلى تفكك البلاد.

 

أما في سوريا، ورغم تعقيدات المشهد، طُرِحَت أيضاً تصورات لفيدرالية أو حكم ذاتي كمخرج يحفظ التنوع الديني والإثني بعد سنوات الحرب. بالفعل، النموذج القائم حالياً في شمال شرق سوريا، حيث تتمتع المكونات الكردية والسريانية وغيرها بإدارة محلية، كما في الجنوب عند جبل الدروز، يُظهر إمكانية اعتماد ترتيبات مرنة لصون حقوق الجميع، رغم عدم قبول هذه الطروحات من نظام أحمد الشرع الجديد. وقد ناقش خبراء غربيون مراراً سيناريوهات تطبيق نماذج حكم فيدرالية أو لامركزية في دول كسوريا وليبيا واليمن أيضاً، كسبيل لتحقيق الاستقرار بعد النزاعات. بالنسبة للبنان، يقرأ المراقبون التحول الأخير في الموقف الأميركي على أنه ميول لقبول نقاشات حول فيدرالية محتملة كخيار لمنع انهيار الجبهات. فلا يخفى أن واشنطن، ومعها باريس، باتتا تنظران بقلق إلى هجرة المسيحيين المشرقيين. لذا قد لا تعارض هذه القوى أي صيغة داخلية يتوافق عليها اللبنانيون لضمان بقاء المسيحيين مزدهرين وآمنين في مناطقهم أو، إذا جاز التعبير، في “أمتهم الضامنة” حتى لو كانت صيغة غير تقليدية كالكانتونات الفيدرالية أو أبعد. المهم أن تأتي المبادرة أولاً من اللبنانيين أنفسهم، وهو ما يعود بنا إلى ضرورة تحرك القيادات المسيحية سريعاً لاقتراح الحلول بدل انتظارها من الخارج.

 

اللبنانيون في دائرة ترامب ودلالات التعيينات

ضمن سياق هذا التقارب الأميركي مع الهواجس المسيحية، يبرز حضور شخصيات من أصل لبناني في الحلقة المقربة من ترامب كعامل مشجّع إضافي. فقد أحاط ترامب نفسه في السنوات الأخيرة بكثير من الوجوه ذات الجذور اللبنانية المسيحية، ما أتاح قنوات تواصل ثقافي وسياسي غير مباشرة مع المجتمع المسيحي اللبناني. ولا شك، بخلفية هذه الشخصيات اللبنانية واطلاعها على تعقيدات التركيبة الإثنية، تستطيع شرح هواجس المسيحيين اللبنانيين للإدارة الأميركية بلغة يفهمونها. وجودهم بالقرب من دوائر القرار شكّل قناة ضغط ناعمة لصالح قضايا تهم مسيحيي لبنان، بدءاً من كبح جماح نفوذ الميليشيات في لبنان وصولاً إلى الدفع نحو مصالحة تاريخية في المنطقة تخفف الضغوط عن الجماعات الأقل عدداً. هذه الشخصيات العديدة هي همزة وصل بين طموحات مسيحيي لبنان والإدارة الأميركية الساعية لحماية الحريات الدينية.

 

تعاون لاستثمار الدعم

في المحصلة، إن مواقف ترامب وإدارته الأخيرة المناصرة للمسيحيين تشكّل تطوراً إيجابياً ينبغي للبنان المسيحي التقاطه والبناء عليه. فحين يعلن رئيس الولايات المتحدة التزامه علناً بمحاربة التحيز ضد المسيحيين وحماية هويتهم، فإنه يبعث برسالة قوية إلى خصومهم وإلى حلفائهم على السواء. الرسالة فحواها أن المجتمع الدولي، ممثلاً بواشنطن، لن يقف متفرجاً إذا تعرّض المسيحيون لأي تمييز أو إقصاء ممنهج. هذا التطور يمنح المسيحيين اللبنانيين ورقة دعم معنوية وسياسية يمكن أن تُحدث فرقاً في معادلة الداخل اللبناني لو أحسنوا استخدامها. لكن الدعم الخارجي وحده لا يكفي؛ فلا بد من تحرّك محلي مسؤول يملأ الفراغ ويطرح الحلول. إذا ظهر المسيحيون موحدين حول رؤية مستقبلية (كالفيدرالية أو غيرها) ومستعدين لتقديم التنازلات المتبادلة مع شركائهم تحت سقف الدستور، فسيسهل حينها كسب تأييد أميركي ودولي لهذه الرؤية. أما التشرذم وانتظار الحلول الجاهزة فلن يؤدي إلا لمزيد من إضعاف الموقف المسيحي.

 

لقد أتاحت الظروف الدولية الراهنة فرصة نادرة للمسيحيين في لبنان كي يؤكدوا على حضورهم ودورهم التاريخي. إدارة ترامب تبدو مستعدة للإسناد، والجاليات اللبنانية في أميركا أثبتت قدرتها على إيصال الصوت. يبقى الرهان الآن على حكمة القيادات اللبنانية أنفسهم. فإذا أحسنوا قراءة المتغيرات وتحلّوا بروح المبادرة، قد نشهد ترجمة عملية للدعم الأميركي على شكل ضغط لتحقيق إصلاحات وضمانات لصالح الوجود المسيحي الحرّ. وإن حصل ذلك، فسيكون انتصاراً تاريخياً، أما إذا ضاعت الفرصة بسبب الحسابات الضيقة والتقاعس، فسيذكر التاريخ أن يد الدول العظمى مُدَّت للمسيحيين اللبنانيين فلم يمدّوا أيديهم بالمقابل. والعبرة الأهم تبقى أن الدفاع عن الهوية الدينية والثقافية للمسيحيين هو نفس مسار الدفاع عن هوية مسيحيي لبنان، وهذا ما أدركه الأميركيون أخيراً، فهل يدركه أهل البيت؟