ويذكر الأب القس بيشوي حلمي في دراسته أنه "بعد سلسلة من الصراعات والاصطدامات انعقد مجمع نيقية عام 787 ميلادياً، بناء على دعوة الإمبراطورة إيريني (الأثينية)، وأعلن المجمع قانونية استخدام الأيقونات ووقع على قراراته 208 من الأساقفة، كما أعلن أيضاً أنه يليق تقديم التكريم للأيقونات دون العبادة، وأن هذا التوقير مُقدم لها بطريقة نسبية لمن تمثلهم الأيقونات"، إلا أن ذلك لم يحُل دون نشوب مرحلة ثانية من الصراع عام 814 ميلادياً في عهد الإمبراطور لاون الخامس (813-820 ميلادياً)، الذي بدأ حركة جديدة من تحطيم الأيقونات.
وتشير بعض الدراسات المتخصّصة إلى أن ممارسة رسم الأيقونات واصل نشاطه بعد دخول العرب إلى مصر عام 640 ميلادياً، كما يقدّم كتاب "تاريخ البطاركة"، المنسوب إلى ساويرس بن المقفع، العديد من الروايات المتعلّقة بالأيقونات، وفي القرن العاشر وما بعده ألف عدد من الكتّاب، أبرزهم أبو المكارم سعد الله بن جرجس ويوحنا بن زكريا بن السباع، مؤلفات عن الكنائس والأديرة، ووثّقوا من خلال كتاباتهم حياة الأقباط كما عاشوها في عصرهم.
ومما لا شك فيه أن فن الأيقونات القبطي في العصور الوسطى بمصر يتجلّى في المجموعة المتميّزة من اللوحات المحفوظة في كنيسة أبي سيفين بفم الخليج في مصر القديمة في القاهرة، ومن بين هذه الأعمال أيقونة مؤرّخة تعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وتُعدّ من أقدم النماذج المعروفة، وتمتاز بدقّة صناعتها، وزهاء ألوانها، وتناسق خطوطها، مما عزّز اعتقاد بعض خبراء علم الأيقونات بوجود مدرسة تصويرية قبطية تفوّقت على نظيراتها المعاصرة في إيطاليا في ذلك الوقت.

ويُلاحظ أن فن التصوير على تلك الأيقونات بدأ يضعف تدريجياً بعد نهاية القرن السادس عشر، فتراجع كثير من قوّته وما امتاز به من ابتكار، إلى أن بلغ القرن الثامن عشر حيث شاع استعمال الأقمشة أو الخيش لتغطية اللوحات والرسم عليها بالألوان، وتمثّل هذه الحقبة خاتمة المرحلة التي انحسر فيها فن التصوير القبطي وأفَل بريقه.
(خامساً) مرحلة ازدهار الأيقونات القبطية (من القرن الثامن عشر حتى الآن): وتحمل معظم الأيقونات المنسوبة إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر توقيع "إبراهيم الناسخ" و"يوحنا الأرمني القدسي"، وقد تأثر العديد من الرسامين بأسلوبهما، ونتيجة لذلك، اتسمت غالبية الأيقونات التي أُنتجت في هذه الفترة بأسلوب فني مشابه للأسلوب الذي أسسه هذان الرسامان.
وحملت أيقونات تلك الفترة خطوطاً مكتوبة باللغتين العربية والقبطية بشأن الموضوع المرسوم وهويّة القديس، وفي بعض الأحيان كانت تشير هذه الكتابات إلى اسم الكنيسة المكرّس لها تلك الأيقونة، أو إلى اسم الشخص الذي موّل صناعتها، وتميزت أيقونات هذان الرسامان أو تلاميذهما بملامح فنية خاصة أبرزها رسم الوجوه البيضاوية الشكل والعيون اللوزية.
ومنذ القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا، ازدهر فن رسم الأيقونات في مصر، ولم يعد حكراً على الرهبان فحسب، بل أصبح يمارس هذا الفن فنانون يرسمون الأيقونات القبطية للكنائس بأسلوب فني معاصر، أبرزهم إيزاك فانوس ويوسف جرجس عياد ومارغريت نخلة وعادل نصيف وغيرهم الكثير.
كما أُنشئت مراسم متخصصة لنشر هذا الفن القبطي، أبرزها مرسم دير القديسة دميانة بالبراري، والذي يضم راهبات ومكرسات وجهن اهتمامهن إلى فن الأيقونة، لذا شهد القرن الماضي حتى الآن نموا كبيراً في عالم الأيقونات، فعادت الأيقونة القبطية إلى استعادة جمالها وعراقتها، بما يعكس الحياة الروحية بعمقها وثرائها.
"الأيقونة أسرارها الروحية وموضوعاتها"

تحظى الخطوط في الأيقونة القبطية بمقام رفيع، إذ لا تُرسم عبثاً أو لمجرّد زخرفة، بل تحمل معان روحية ولاهوتية سامية، فكل خط فيها يمثل جملة صامتة تعبّر عن "سر إيماني" و"نافذة بصرية" تنقل حقيقة روحية تتجاوز حدود الواقع.
فالخطوط المستقيمة تشهد على ثبات واستقامة الإيمان، أما المنحنية فتنطق بالحنو والرحمة، والمتوازية والمتكررة منها تشير إلى الأبدية واللانهائية، وهكذا تتحوّل الخطوط من مجرد عناصر تشكيلية إلى رموز دينية، فتصبح الأيقونة "إنجيلاً مرسوماً" يُقرأ بالعين ويتأمله القلب.
فعلى سبيل المثال، ترمز "الدائرة" في فن الأيقونة إلى الأبدية، إذ لا بداية لها ولا نهاية، ويُرسم رأس قديس الأيقونة دوماً أشبه بدائرة إشارة إلى أن هذا الشخص وجه فكره دائماً نحو الأبدية، وأن تفكيره كان مركزاً على الأمور السماوية لا الدنيوية.
أما العين فتأخذ شكل سمكة ومركزها في منتصف رأس قديس الأيقونة، أي في مركز الدائرة، دلالة على التركيز والتمييز، كما يشير اتساع العين وانفتاحها إلى السهر الروحي. وتجدر الإشارة إلى أن رسم العين على شكل سمكة يحمل رمزية خاصة بحياة المسيح شخصياً، فالسمكة الحية تسبح دائماً ضد تيار المياه، أما الميتة منها يجرفها التيار، وهكذا يُستدل على المعنى والمغزى في رسم الأيقونة فالمؤمن الحق يسير ضد تيار العالم ومغرياته اقتداء بحياة المسيح، بينما يترك نفسه لتيار العالم وشروره إن لم يكن هذا الشخص متمسكاً بإيمانه ومتشبها بشخص المسيح.

ويُرسم الفم في الفن القبطي مغلقاً، ويشير غلق الفم إلى أنّ لغة القديس نابعة من القلب ومن فضائله الداخلية، وليس من الشفاه، بخلاف الباحثين عن مجدهم الذاتي في العالم، الذين تتسم كلماتهم بالضجيج والصخب ولا تنبع من القلب، ولا تحمل المعنى والعمق الروحي.
أما الأذن فهي دائماً مغطاة في الأيقونة القبطية، ولا يظهر منها سوى جزء صغير، ففي حالة القديسين تُغطى الأذن بشعر القديس، أو بالقلنسوة بالنسبة للرهبان، أما القديسات فتُغطى الأذن بالطرحة، وترمز تغطية الأذن إلى أن الكلمة تدخل القلب وتتفاعل داخله وتنمو في أعماقه، بخلاف باقي البشر في العالم.
كما تُرسم الرقبة في الأيقونة القبطية باعتبارها رمزاً لحلقة وصل بين السماء والأرض، فهي تربط الرأس (المعبّر عن الفكر السماوي) بالجسد (المعبّر عن الفكر الأرضي المادي)، ولهذا السبب، يُرسم الجسم في الأيقونة أصغر من الحجم الطبيعي للإنسان، بينما تكون الرأس أكبر والأكتاف منحدرة، دلالة على تفوق الروح على الجسد.
أما اختيار الألوان في الأيقونة القبطية، فهو ليس عشوائياً، بل كل لون فيها يحمل دلالة ورمزاً خاصاً، فاللون الأحمر القرمزي، لون الدم، يشير إلى مفهوم "الخلاص والفداء" في المسيحية، بينما الأبيض يشير إلى القيامة وطهارة القلب، ومن ثم، لا يُرسم السيد المسيح في الأيقونة إلا بهذين اللونين، برداء أحمر وجلباب أبيض، ليعكس بذلك مفاهيم روحية.

ويأتي اللون الأزرق بجميع درجاته في الأيقونة القبطية للدلالة على الحياة السماوية، وأبرز مثال على ذلك رداء القديسة العذراء مريم، وهو غالباً أزرق فاتح يشبه صفاء السماء، وتُزيَّن أحياناً بالنجوم، وعلى طرحة العذراء تُرسم أحياناً ثلاثة نجوم كبيرة، بخلاف النجوم الصغيرة، كما يرمز اللون الأزرق إلى مياه المعمودية وإلى الارتباط الروحي.
أما اللون الأصفر الذهبي في الأيقونة القبطية، فيشير إلى "المُلك السماوي"، ولذلك يجب أن تكون خلفية الأيقونة مذهبة بهذا اللون، ويشير اللون البنفسجي في الأيقونة القبطية إلى الموت عن العالم، بينما يرمز اللون البني إلى تراب الأرض، كما يستخدم الرسام اللون الأسود لتأكيد الوجود، حيث يقوم بتحديد كل شخص وكل عنصر في الأيقونة بخط أسود، في إشارة إلى أن ما يُرسمه في أيقونته هو حقيقة ثابتة وليس أسطورة أو خيالاً.

وعن أبرز الموضوعات التي اهتم الرسامون بتقديمها من خلال فن الأيقونة، يذكر حشمت مسيحه جرجس، في دراسته الموجزة بعنوان "الأيقونات الأثرية" المنشورة ضمن موسوعة "من تراث القبط"، أن رموز الأيقونات في الكنائس القديمة وموضوعاتها ركزت على تقديم صور أبرزها "صور للقديسة العذراء مريم ومعها الطفل يسوع، وهي منتشرة في كل الكنائس والأديرة الأثرية، وأيقونة هروب العائلة المقدسة رقم 3350 بالمتحف القبطي".
ويضيف موضوعات أخرى مثل "حياة السيد المسيح من البشارة إلى الصعود وموجود منها نموذج رائع في كنيسة أبي سرجة من القرن الـ 18، ومنها مناظر نادرة مثل نزول المسيح إلى الهاوية (الجحيم) وإخراج آدم وحواء وظهور المسيح للتلاميذ والأبواب مغلقة. وأيضاً حياة المسيح على أيقونة مجمعة بكنيسة السيدة العذراء بحارة الروم وأخرى مجموعة لحياة العذراء بكنيسة العذراء بالمعادي".
ويتضح من استعراضنا لهذا الفن القبطي أن الأيقونة ليست مجرد لون وخطوط على خشب، بل هي لغة للروح تتحدث بلا كلمات، وتجذب إلى عالم القداسة والمثل العليا، وكل رمز فيها، وكل لمسة وخط ولون، ينبض بتاريخ الكنيسة المصرية، ويحكي قصصاً عن حياة المسيح والعذراء مريم والقديسين الآخرين الذين سلكوا دروب الإيمان بالصبر والمحبة، فأمام الأيقونة، يقف الناظر وكأنه جزء من قصة أكبر تركز على الإيمان بوصفه ملجأً للرجاء والسكينة.
كما تلعب الأيقونات، تحت ضوء الشموع وهمسات الصلاة، دور المرايا التي تذكّر أقباط مصر بأن الإيمان ليس مجرد عقيدة، بل حياة تُعاش بتفاصيلها، فضلاً عن كونها تعليماً يُرى ويُحس، ورابطاً بين الماضي والحاضر، بين قديسين وأحياء، بين السماء والأرض، فمن خلال هذا الفن واصلت الكنيسة القبطية نقل إرثها الروحي، ليظل مرشداً روحياً، ومرآة للقداسة، وجسراً عابراً بين الإنسان والله.