قناة عشتار الفضائية
 

صفحات مشرقة لمسيحيي الموصل


 

 

 صباح صادق/صوت العراق

لولا البطريرك عمانوئيل، لسلب الأتراك الموصل كما سلبوا الأسكندرونة السوري

يعجز الباحث المدقق النزيه عن ذكر ما قام به مسيحيو الموصل من مآثر وأعمال اصلاحية وبناء في شتى مناحي الحياة، فأول مطبعة عراقية قامت في الموصل عام 1850م للآباء الدومنيكان. أول صناعة وطنية قامت في الموصل على يد المسيحيين وليس في بغداد، وأول مدارس فنية مسرحية وموسيقية قامت في مدارس الموصل الأهلية وليس في بغداد، وأكبر قصور الموصل شيدت بالسواعد الفنية لبطرس وججو وهرمز، وفي عراق اليوم، تحاول القوى السلفية الظلامية أن تعود بالعراق الى العصور المظلمة مع التخلف والجهل، تريد أن تزيل العقبة الحضارية، وهي الوجود المسيحي في الموصل، حيث تهدد أمنهم وسلامتهم من خلال تفجير كنائسهم وتهديم بيوتهم وسلب محلاتهم، واجبارهم بالقوة على الهجرة الى الخارج، وكأن التاريخ يعيد نفسه، كما حدث في أواخر أيام الزعيم قاسم. انهم يقولون ان الدين عند الله هو الاسلام، أو، لا نصارى في ديار المسلمين، والمشهد الدراماتيكي المؤلم قائم في عراق اليوم والذي يديره أئمة فاسدين جهلاء.

نقدم هنا صورة مشرقة لما قام به مسيحيو الموصل من معارضة ضم هذا اللواء العراقي المهم (بعد بغداد) الى الأراضي التركية بعد الحرب العالمية الأولى، ودور البطريرك المرحوم عمانوئيل الثاني في التصدي للمشاريع الأجنبية وافشالها في مهدها، ولولا جهوده المضنية، لكانت الموصل في خبر كان، ولكانت جزء من الأراضي التركية، كما حدث في سوريا حيث سلب الأتراك لواء الاسكندرونة السوري وألحقوه بتركيا في غفلة من الزمن، او كما حدث مع لواء عربستان (عبادان) العراقي الذي سلبته ايران الشاهنشاهية وضمته الى أراضيها.



البطريرك نموذجا للوطنية الصادقة 1901-1947

كان البطريرك يوسف عمانوئيل الثاني وطنيا صميميا متعلقا بأرضه، مثمنا ما قام عليها من حضارات عظيمة، لذا نراه يقف الى جانب قضية العرب في أعقاب الحرب العالمية الأولى، كما انه عبّر في أثر من مناسبة عن تمسكه الشديد بالعراق وبحدوده المشروعة، لا سيما ابان قيام الحكم الوطني في العراق، فكان من الأوائل الذين بايعوا فيصل الأول ملكاً على العراق بخطاب ألقاه وسط الجماهير المحتشدة في دار البطريركية الكلدانية في بغداد سنة 1921 والمجاورة لكنيسة أم الأحزان، فحذا حذوه رؤساء الطوائف المسيحية الآخرون.

على اثر اشتداد حركة استقلال العرب في الحرب العالمية الأولى، نفى الأتراك ثمانين من وجهاء بغداد مسلمين ومسيحيين ويهود الى الأناضول، وما أن وصل المنفيون الموصل، الاّ واستنجدوا بالبطريرك يوسف عمانوئيل، فتدخل في أمرهم وقابل الوالي (حيدر بك)، فتمكن بكياسته من اقناعه لإبقاء هؤلاء الوطنيين في الموصل أياماً، فكان له ذلك، وفي تلك الأيام صادف مجيء (فون درغولج) قائد جيش الأتراك الأعلى في الكوت الى الموصل لمحاربة البريطانيين، فدعا البطريرك كلا من هذا القائد والوالي حيدر بك الى حفلة شاي شائقة أقامها لهما فحضرا، فاغتنم السيد يوسف عمانوئيل هذه الفرصة فتداوله مع القائد حول قضية المنفيين وحصل على العفو عنهم.

أستمر حبل المودة والتعاون بين المسلمين والمسيحيين بجهود متقدمة، ونسوق هذا المثال عن الموصل التي كان ولا يزال يسكنها المسيحيون بكثافة، حيث أرسل رؤساء الطوائف المسيحية برقيات الى البابا والكرادلة ولندن وبروكسل وفيينا وبودابست وباريس يحتجون فيها على مطالب الأتراك اللاشعبية ويستنجدون بهم لدى عصبة الأمم المتحدة لصيانة ولاية الموصل ضمن العراق، ورفع البطريرك تقريرا الى رئيس اللجنة الأممية لايدونر الموفودة لأستفتاء أهالي الموصل، يعرب فيه عن رأي طائفته بالضم وتجلت وطنية البطريرك خاصة ابان اثارة مشكلة الموصل ومحاولة تركيا بضم الولاية اليها. يكتب الدكتور فاضل حسين بأن المسيحيين أيدوا ولاية الموصل الى العراق على الرغم من تحيز الكولونيل تيلكي الى جانب الأتراك.

حصل سوء تفاهم بين البطريرك وبين الكولونيل ليجمن، فأمر الأخير بنفي البطريرك الى بغداد، وقد حدثنا أحد الرواة الثقة قال: لم يوافق البطريرك عمانوئيل الثاني على الخطط الأستعمارية التي كان الانكليز يرسمونها للعراق فنفاه الكولونيل ليجمان الى بغداد وأكرهه على الإقامة الجبرية فيها، فخرج المودعون من مسلمين ومسيحيينيودعونه حتى البوسيف وكان في حراسته ضابط وأربعة جنود من الهنود، فرجاه أحد الأصدقاء المسلمين المتحمسين أن يسمح لهم بقتل الجنود والهرب به الى مكان أمين.

ونظرا لاعتراضات تركيا شكلت عصبة الأمم لجنة قوامها رئيس وزراء المجر ‏السابق بول تلكي ووزير السويد المفوض في بوخارست واي اف فرسن والعقيد البلجيكي المتقاعد أ. بولس فأجرت اللجنة اتصالات مباشرة مع الاهالي وممثلي الفئات والطوائف . وعندما طلبت رأي البطريرك الكلداني انتدب مار يوسف عمانوئيل الثاني الذي عقد في الموصل وحضره الوجهاء والاعيان للادلاء برأيهم في الموضوع امام اللجنة المكلفة، وقد اختير المطران غنيمة للتكلم بالفرنسية باسم الجميع . ونحن ننقل هنا ترجمة الخطاب كما افادنا بها القس ميخائيل عزيزة:

‏ان رؤساء الاديان من اسلام ومسيحيين لهم الشرف ان يرحبوا بقدوم لجنة الهيئة الاممية الى حاضرتهم، وان يخصوهم بوافر الاحترام.

‏يروق لنا أن نبدأ بهذا الاعتبار : ان الهيئة الاممية وهي اليوم اعدل مؤسسة انسانية في العالم ، قد اولتكم ثقتها ايها السادة ، فوجب علينا والحالة هذه ان ‏نحيي باحترام اشخاصكم الكريمة، وان نقوي آمالنا واثقين بان قضيتنا الشرعية والحيوية مودوعة الى ايد صالحة.

‏بصفتنا رؤساء الاديان والاعيان في الموصل ومجاراتها، نحن احق بالتعبير عن رغائب المدينة وجماهير الاهالي، وعن ارائهم وميولهم الصميمة.

‏ان هذه الجماهير ايها السادة تطالب بحقها في الحياة والحياة بكل حصر معناها هي حق طبيعي لكل فرد ان ينعم به . تطالب جماهير الاهالي ان تحيا بكامل حريتها متمتعة باحترام معتقداتها وتقاليدها وعوائدها الخاصة. وبكلمة واحدة، ‏ان تتمتع بقوميتها العربية الناجزة الاستقلال. ولدى المقابلة بين الماضي والحاضر ‏يحصل الاقتناع عند جماهير أهالي الموصل ومجاوراتها: ان هذه الحياة القومية لا تتوفر لهم الا اذا كانت الموصل مضمومة موحدة مع الحكومة العربية العراقية. واذ نحن واثقون من مشروع حقوقنا، نتقدم باسم جميع مواطنينا مطالبين عدالة العالم المتمدن والهيئة الاممية التي تمثلونها ايها السادة بحق الحياة متأكدين بان هذا المطلب المشروع يبلغ هدفه العاجل. ويأمل ان لجنتكم المحترمة تتولى احقاق هذا الحق وتراعي الرغائب الراسخة التي عبر عنها أهالي الموصل ومجاوراتها بهذه الكلمة أختم صارخا من أعماق النفس: فلتحيا العدالة.

ويذكر انه لما أنهى المعاون البطريركي كلمته،تقدم رئيس اللجنة مصافحا وقائلا: لقد سمعنا منكم ما كفانا تنويرا في الموضوع، وبعد أن الحقت أضرار جسيمة في خمسة عشر قرية كلدانية من قضاء زاخو، ذهبت اللجنة للاطلاع على الأوضاع، ولما عادت الى الموصل قال رئيسها للبطريرك يوسف عمانوئيل الذي اتصل بالفاتيكان للتوسط في جعل الموصل عراقية، ان طائفتك المهاجرة من تركيا كسرت قلبي، هؤلاء المنكوبون هم الذين ربحوا قضية الموصل التي يجب أن تبقى جزءً غير منفصل عن العراق، وشارك البطريرك يوسف عمانوئيل في الحياة الوطنية فكان عضوا في مجلس الأعيان حتى وفاتهوخصه الملك فيصل الأول بالتقدير والاكرام، وشهيرة هي زيارة الملك له في مصيفه في دير مار أوراها بالقرب من مدينة باطنايا، وخدم البطريرك وطنه بكل اخلاص معرفا به في أسفاره الى العواصم الأوربية فاستحق الثناء والأوسمة.

وعند وفاة هذا البطريرك الذي أرسى أسسا من التعاون المسيحي الاسلامي في الموصل التي كان يقطنها آنذاك 35% من المسيحيين، وأقيمت الحفلة التأبينية الكبرى في مدرسة شمعون الصفا في 30 آب 1947 وكان خطبائها من أبرز أدباء الموصل يومذاك ومنهم السادة خيرالدين العمري وفاضل الصيدلي وذنون الشهابي والخوري سليمان صائغ وغيرهم من الأدباء من مسلمين ومسيحيين ونشرت ذلك جرائد الموصل.

لم يكن البطريرك يوسف عمانوئيل عالما بل كان اداريا قديرا ووطنيا عراقيا بارزا من الطراز الأول ويستحق التقدير على الأعمال التي أنجزها.

هامش 1:

بعيد اشتداد الهجمة العنصرية على المسيحيين البصاروة بعد سقوط الأوضاع السابقة وسقوط صدام وظهور ألف صدام جديد، تعرضت دور العبادة والكنائس الى مضايقات حقيقية غير مسبوقة، وكثرت أعمال السطو والسرقة وسلب ونهب أموال المسيحيين وسياراتهم وموجوداتهم، وانبرى بعض أئمة الحسينيات والمساجد في حملة مسعورة يبشرون بفراغ البصرة من المسيحيين، فقال أحد الممولين من مخابرات ايران من أصحاب الكشايد الكبيرة في خطبة الجمعة بين المصلين: لا تشتروا دورهم ومحلاتهم، ولكن المطلوب منكم هو المزيد من العنف تجاههم وسوف يتركون لكم كل شيء مجانا (غزوة او فرهود جديد).

يقول أحد شمامسة الكلدان، خاف أن يعلن عن أسمه، بانه كان للمسيحيين في البصرة ثقل بشري واقتصادي وثقافي وعمراني كبير وكان للبصرة ثلاثة نواب مسيحيين في العهد الملكي الزاهر، حيث قالوا: البصرة دون نسيجها الوطني تعني خراب في خراب، ويقدر راهب آخر في البصرة ان عدد المسيحيين الذين كان لهم ثلاثة نواب في العهد الملكي، كان يبلغ عددهم قبل السقوط مئة ألف نسمة من الكلدان والسريان والأرمن والمندائيين، وأصبح اليوم عددهم عشرة آلاف نسمة، معظمهم يعاني من مضايقات وهم في تناقص سريع حيث الباقون هم من الطبقة الفقيرة ينتظرون الهرب رغم ضيق اليد.

هامش 2:

عبّر غبطة البطريرك الكلداني عن حالة المسيحيين في عراق اليوم، بأنهم مضطهدون، وان هناك اضطهاد ومضايقة لحقوق المواطنة (ذميين)، وقد انزعج الأستاذ نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي من كلمة اضطهاد حيث وجدها قاسية، فقال له البطريرك: طيب، هل لك أن تختار عبارة أكثر دقة من الاضطهاد لتعبر عن أحوالنا المزرية اليوم؟

هامش4:

يقول البحاثة جورج البنا: ان غبطة البطريرك أرسل المطران اسطيفان كجو الأول بصحبة بعض أعضاء الوفد الى قرى سهل نينوى، لمعرفة ما اذا كانت الموصل عراقية أم تركية. فأقام المطران كجو قداديس يوم الأحد، وطلب من المصلين أن يدلوا بأصواتهم لصالح كون الموصل عراقية خالصة، وحدث هذا في جميع كنائس سهل نينوى.
صباح صادق/كاليفورنيا