بمناسبة عيد ميلاد العذراء 8 أيلـــــول
مريم العهد الأمين للخلاص
هوذا الملاك يتجه إلى العذراء في بيتها، وبعد أن يُلقي عليها التحية يريد من مريم أن تؤمن بما سيُقال وسيكون بعدئذٍ. فلابدّ من عهد ووعد لأن هذا القبول يتطلب شجاعة. إن مريم فهمت جيداً ما هي إرادة الله، كما إنها أدركت كيف يجب أن تجيب بتمام العهد طاعةً للسلام الذي أُلقي عليها، فخضعت وقالت:"ها أنا أمَة الرب، فليكن لي بحسب قولكَ" (لو 38:1). هذا القبول هو الطاعة الأكيدة للعهد الذي قطعته العذراء يوم كانت في الهيكل، مما جعلها أن تقدم نفسها للخدمة كما سيفعل يوماً ابنها يسوع الذي قال:"أتيتُ لأخدم"، فهي بذلك تتحمل - ليس فقط عهد الطاعة -وإنما المسؤولية التي ستُمنَح لها، والتي ستنمو وتتطور لتصبح أمّاً لابنها بالجسد، وأمّاً روحية لأبنائها في الكنيسة. فقبول مريم للطاعة وفاءً منها لعهدها مع الرب، جعل القديس برنردوس يقول:"أيتها السيدة، أيتها العذراء، على جوابكِ يتوقف فداء المأسورين، وتحرير جنسٍ بشري محكوم عليه بالموت". كما قال جان غيتون:"إن كل شيء متعلق بإتمام الوعد الصادق. عِبْرَ وعدها ووفاءها تتعلّق الوعود الإلهية". فمريم بقولها لكلمة "فليكن" قلبت صفحة، بل الصفحة الأخيرة من العهد القديم لتبدأ صفحة جديدة في العهد الجديد، وأصبح هذا العهد أول فعل إيمان بيسوع المسيح المخلّص. وكما كان حبّ الله عهداً للإنسان بأن يتجسد في المسيح، أصبح عهد مريم حبّ الله من أجل الإنسان في الخلاص. إن مشهد البشارة واضح وضوحاً جلياً كم إن الله قَبِلَ حرية مريم بقبولها سلام الملاك، ففي هذا أدركت مريم إنها شريكة لدور كبير في التدبير الخلاصي. يقول الكاردينال دي بيرول مخاطباً مريم:"إن الله قد جعل أسمى أسراره التجسد، وهو لا ينتظر منكِ إلا كلمة عهدٍ أمين عبر كلمة التواضع. فأدركت ذلك مريم وقالت: ها أنا أمَة الرب. ثم كلمة "فليكن" لتكون الكلمة القديرة في الكون كما كانت في الخلقة". فلولا إسهام مريم عبر عهدها وإيمانها أنَّ ذلك إتماماً لإرادة الله، لكان التجسد مستحيلاً. فعهد مريم جاء ليُصلح العهد الذي قطعته حواء لخالق الكون، ولكن كبرياءها جعلها تسقط وأيّما سقوط، بينما عهد مريم جاء للنهوض مطيعةً لله، فأصبحت بذلك أمّاً للأقنوم الثاني، وشفيعةً لحواء وأبناءها، إذ يقول القديس ايريناوس:"إن الجنس البشري قد أُخضع للموت بعذراء عبر عدم إتمامها عهد الطاعة، بعكس عهد الطاعة الأمين الذي قبلته العذراء، وبوفاءها لهذا العهد زرعت الخلاص لأبناء حواء". إن الدرب الذي تبعته العذراء - درب العهد والوفاء - هو درب الإيمان الطبيعي لأنها تعلّمنا الاستسلام الكامل لمشيئة الله. فليست الطريق إثر يسوع بسهلة دائماً، ولكننا نعرف مَن يقودنا، وهذا العهد كان امتحاناً عظيماً لإيمانها، فهي التي قالت:"طوبى للتي آمنت". قبول مريم لعهد الطاعة كان عليها أن تموت عن ذاتها القديمة أمام رسالة يسوع بأنْ كل مَن يعمل مشيئة الله يمكنه أن يكون أمّاً ليسوع وأخاً وأختاً، وله امتياز الإنتماء له بالكلمة ومشاركته في كل شيء. لقد عرفت حقاً مريم بأن طريق الطاعة التي دُعيت إليها لابدّ وأن تمضي في النهاية إلى حيث الله، وأن عليها أن تُلقي إشكالها بالكامل على إلهها. نعم، أجابت مريم في بساطة حريتها وكمالها "فليكن لي كما قلت" (لو 38:1). أجابت للحب الذي غُمرت به عبر الروح القدس، وبهذا الروح سلّمت نفسها بلا تحفّظ بين يدي الله معبّرة عن استعدادها لتكون خادمة بل أمَة الرب التي يصنع بها ما يشاء بحسب قوله. فنعمة نظير هذه لا يمكن أن ينطق بها إلا الإنسان الذي أصبحت رغائبه وميوله واحدة مع إرادة الله 00 هذه هي "نعم" المحبة. فالنفس التي تحب الله لا يمكن أن ترفض له رغبة أو طلبة، وهذا العهد كان استعداداً للموت، فهي لم تتراجع من دفن سمعتها بين الناس، ورجاءها في المستقبل في زواج سعيد وفقدان بيتها وحياتها، فعبر هذا العهد استودعت نفسها لطريق جديدة في الحياة، يعني موتها اليومي بالذات ولكافة المباهج الذاتية في هذا الوجود، ورضاها عن معرفة وحرية تامة كمَن يبرم ميثاقاً، والميثاق هنا بين الرب والأَمَة، بين الله وممثّل ألإنسانية (مريم)، أراد الرب في ذلك أن يتعلّق فداء البشرية برضى الأَمَة التي رفعها إلى الأمومة الإلهية، مما جعلها أن تسمع من الملاك إثباتاً لم تطلبه، ولم تطلب شرحاً لم تكن بحاجة إليه، إذ ليس لها بعد ذلك إلا أن تجيب، وجوابها هو جواب البشرية المتلهفة إلى الرحمة والخلاص 00 جواب مريم هو عهد الطاعة في التسليم التام لإرادة الله، تسليم الأَمَة إلى الرحمة والخلاص "أنا أمَة الرب، فليكن لي كما قلت" (لو 38:1). إن عهد الطاعة خطوة في مسيرة الإيمان، بدأتها البشرية عبر مريم ممثّلة لها، وهذا العهد وهذه الخطوة هما في قلب الكنيسة وفي سرّ مريم الذي لا ينفصل عن الكنيسة، إذ من خلالها ترتبط البشرية ارتباطاً كاملاً بالمسيح بقوة الروح القدس، فهي تحيا من حياة الله نفسها. وفي عهدها هذا تكون أنموذجاً تقوياً للكنيسة وللمؤمنين، وهي في نفس الوقت الحواء الجديدة التي أعطت الحياة. ويوحنا بولس الثاني خاطب العذراء مريم قائلاً:"علّميني من صمتكِ أن الطاعة هي عهد أكيد، وهي الطريق الوحيدة لعيش الإيمان. فلا أطلب منكِ إلا أن أمسك يدكِ كما يمسك طفل صغير يد أمّه". فالعهد الذي قطعته مريم للرب الخالق هو العهد الذي قطعته لأبناء البشر في قبولها سرّ التجسد. فهي التي حملت حب الله للإنسان، وهذا الحب يعني قبولها بالطاعة وإتمامها للوعد الذي قطعته للملاك. فمريم عهد الله لنا وعهدنا لله 00 وهذا هو طريقنا في الإيمان، ومن خلال ذلك تكون مريم لنا عهداً وطريقاً لنحيا الإيمان بالمسيح يسوع.
المونسنيور بيوس قاشا |