زمن البكاء ودفئ القبلات في حضرة السمراء




نقد: كريم إينا


 


صدرت سنة 2005 مجموعة شعرية بعنوان : إلى السمراء قبلات وبكاء  للشاعر توفيق سعيد توفيق وهي من منشورات جمعية الثقافة الكلدانية /عنكاوا (13) ويقع الكتاب في (78) صفحة من القطع المتوسط طبع بمساعدة المديرية العامة للطباعة والنشر /وزارة الثقافة –إقليم كردستان  وقد ضمت المجموعة ثمان وعشرين قصيدة  سبق وأن أصدر الشاعر ديوان الجسد عام 1985 وديوان سيمفونية الرجل المهموم بسعادة عام 2004 .
تتجلى في خواطر الشاعر لطافة الفرح وخشونة الحزن في أحداق من يحبهم ولكن هيهات أن يغرق الماء في النار بل يثبت عكسية الحالة لذوبان لهب النار في الماء، يبتهل الشاعر بقصيدته الأولى والتي عنوانها الاقتراب بعدا يقول فيها: /وتنضوي زنبقة تحت لواء القلب /، /جرحا ينزف ناصع البياض/.
إن كلمة تنضوي لا تعني في الفصحى الإضاءة بل تعني الإدراج  وهنا قد صدقت شاعرية شاعرنا توفيق لأنه ربط الجرح ولواء القلب ، والشيء الذي يبعث روحا في قصيدته اسمها الذي يربط جدلية فلسفية الاقتراب والابتعاد وهما من التضاد البديع أو ( الجناس ) وتذكرني هذه القصيدة ببيت للشاعر أبو علاء المعري حين قال :/ وراءي أمام والأمام وراء / إذا ما تكبرني عنها الكبراء /.
حقا الاقتراب هو الأمام والابتعاد هو النظر إلى الوراء ، وما زلت ابحث كالبحر الهائج ليس له أمان ثم تأتي قصيدة لم تزل امرأة كلماتها تنفذ إلى القلب حيث يقول:/ هي امرأة ولم تزل/ تبادلني التحايا والقبل/ وحبذا لو قال كنا بالتحايا نعتصر القبل / كان أغنى وأبهى ويختتم القصيدة بكلمات رنانة ذات إيحاء جميل فيقول :/ هي امرأة ولم تزل مولودة منذ الأزل / زنبقة فواحة / في بحر العسل/

أما قصيدة ضحية العنوان تحكي عن قمم ادونيس الشاعر السوري (علي احمد سعيد) الذي قال :/ ترتفع بي وترتمي مطرقة من الدم كأنما طنينها يحبسني في قمقم/ . لقد ربط الشاعر الحشرجة وهي آخر البكاء الذي ظهر في قعر الفنجان  فهو يقول :/ لتحرقني والسيكارة / لتحارب الجنود في داخلي وتدمر الإمارة / تظهر كلمات الستارة والسيكارة وكلتاهما تثيران معنى الانسداد وظهور نوع من الضبابية  حيث يقول :/ فانا برج ولكن / لست البرج البابلي / والأحرى لو قال / لست برج بابل / وقصيدة بكاء شمعة / والتي تحترق وهي ترسم قصة وردية عن المطر و الأزهار والأنهار والى  الأقاصي البعيدة من الأمصار، يظل الشاعر توفيق سعيد يحلق في الأفق لكي يروي جدائل المرأة العاشقة كما يظهر في قصيدته الجرح يذوب في الدواء  فيقول :/فتنكفئ الغيوم وتبزغ النجوم / حتى صور له العشق والهناء/كجرح ذاب في عمق الدواء /.
إذا حديث الذكريات راح يتقافز ليتوارى خلف أجمة الأحزان في وسط الصحراء ، ثم يتمسك بالصحو والخيال ... ليصل إلى القلب فتراه حينا يترنم به الجمال فتنفتح الوسادة لتظهر عقيق القلادة وحينا آخر ينفجر الرعد ويلتهب البرد فتبدأ الولادة . أما قصيدة  زمن الطوفان وضياع الشراع كلتاهما  نفحة تجول في الأفق تضنيها سكرات الشوق وهمسة الوجود ،
يقول في ضياع الشراع :/ وسارت في الأنهر دمائي / وانتحرت بإرادتها حوائي /لو فعلوا ما فعلوا / أو سرقوا أو قتلوا / فلن أعود / ما أجمل هذه الصورة التي تكسر زمنية الخطاب في أمكنة متداخلة ذات مساءات مضيئة في لحظة الإغفاءة الأخيرة ، أما في الصفحة (29) يحكي الشاعر عن حلاوة النخيل فيقول :/ يقتلون فيك العشق المعطر والتمني / ايهمك أمر العشق وما كان أم أمري !؟ / أما قصيدة : قالت لي وتعال إلي هما صنوان يكتسبان الرشاقة والدقة من شقائق النعمان وكما يقول في الصفحة (35
/
فما زال شعري كما أحببته طويلا نديا / أما قصيدة : اللسان إنسان فاني أقف عندها ربما لغرابة عنوانها تظهر قوة القصيدة في البداية حيث يقول :/ أنا لم أتحرك لقد تحركت الجدران/ إن لم أكن حجرا / فحتما أنا إنسان / ولكن القصيدة تفقد بريقها في النهاية عندما يقول :/ وان تلعثم اللسان / فلأني لست حجرا / بل إنسان /فاللسان هو سر خلاص الإنسان أو هلاكه بحركته أو تلعثمه وكما يقولون في مثل العامية / لسانك حصانك إن صنته صانك وان هنته هانك / وتظهر همهمة صغيرة في قصيدة بدا العد الصفحة (41) يتوقف عندها المد وبعد الضياع والطوفان والدواء للخلاص تظهر مكامن الخطر قرب الوحش الكبير الذي لا ينطفئ له سعير لكن سيأتي يوما ما كما يقول الشاعر :/ وسآتي فوق حصاني / هاربا من أحزاني / يظهر جليا معاناة الشاعر من الأحزان التي مازال هاربا منها .
أما في قصيدة حوافر النساء فيقول  :/هل ارتدت الخيول يوما حوافر النساء../ لتزهو أجسادها السمراء / . لقد نسي الشاعر علامة الاستفهام التي تسال المتلقي  لو وضعها لكان أفضل :/ هل ارتدت الخيول يوما حوافر النساء ؟ / الشعراء يتبعهم الغاوون تراهم يقولون  ما لا يفعلون حيث قال الشاعر توفيق :/ لتزهو أجسادها السمراء /. نعم بأن الإنسان ذكرا كان أم أنثى يمتلكان جسدا واحدا كان أفضل لو قال :/ ليزهو جسد السمراء / لتقتل ما بقي حيا /.
صعب علينا موت الزنابق  عنوان القصيدة الصفحة (47) يقول فيها :/فانكمش السقف خجلا وانفطر /
نسي الشاعر بأن كلمة وانفطرا تلتزم الراء الألف  . مزج الشاعر  أمثالا شعبية في قصيدته مما أضاف إليها بريقا ينير الزوايا المعتمة فيها حيث يقول : / شهدت موت الزنابق المجنونة وسقط الحابل / والمثل يقول : وقع الحابل بالنابل فلم يكتمل معنى الكلام عنده نتيجة فقدان كلمة النابل . أما في قصيدة نامي سيدتي يقول الشاعر : / ودعي حاجبك الأيمن يرتجف فرحا أو حزنا / كان الأحرى قوله يرف بدل يرتجف لان المعادلة تكون عكسية حيث الفرح والحزن يكونان سواء إذا ارتجفا ولكن تبقى جمالية البديع تفضل كلمة يرف ، رغم الشغل الشاغل لشاعرنا توفيق نراه غزيرا في الانتاجات الأدبية لا نعلم متى يكتب قصائده ؟ هل هناك مارد يخرج من عنق الزجاجة يحكي له أم ماذا؟! هذا الذي لا نعرفه والجواب يبقى مكتوما في جوانح وأحاسيس الشاعر .
وتظهر قصيدة : من ثقب الباب يؤكد فيها حتمية الموت والحياة حينما يقول : / فان الله وحدده يميتني ويحييني / يقول الفيلسوف أرسطو " كل الناس يموتون أنا إنسان إذا أنا أموت " . تظهر قصيدة عشتار آلهة الحب والجمال في الصباح ولكنه يزيل الظلمة عندما يقول :/ واأتلق في ظلمة حبي كالمصباح/ لا ادري كيف مرت كلمة اأتلق من يد الشاعر ربما يرجع السبب إلى الطباعة والأصح يقال : / وأتلق في ظلمة خبي كالمصباح /. ثم وقفة يدخل إليها الإسفاف حين يقول :/ وساتيك ببخوري على صدري كل صباح / والأفضل وساتيك ببخور من صدري كل صباح / تدخل إلى النفس أسهل ، وقد نسي الشاعر نفسه عندما قال سأحررك من العبودية وسابني داخلك هيكلي وسآتي بالبخور وأرسل إليك ومضاتي وفي الأخير يريد التخلص منها بقوله : / وتهيئي لتكوني لي كبش فداء / تتكرر كلمة بيضاء في أكثر من قصيدة حيث يقول :/ وأخيرا جئتني ../ لتضمخ بعطر لا اعرفه كفني / وتقول لي اعذريني / لقد قال الفراء :" أموت وفي نفسي شيء من حتى " فهي تخفض ما بعدها أو تنصبه أو ترفعه ولكن الحقيقة هذا ليس موضوعنا وإنما كان عليه أن يقول :/ وأخيرا جئت تضمخي بعطر لا يعرفه كفني / وتقول لي اعذريني / وهناك قصائد أخرى مثل ( بقايا عاطفية ، تعالي أمنحك هوية ، صلابة الحجر ، انتظار ، ترنو إلي ) قصائد لا خلو من الومضة الجميلة ، أتمنى للشاعر توفيق سعيد توفيق الموفقية والاستمرار في خدمة الشعر ذاته وحركته الأدبية والمزيد من التألق خدمة للأدب العربي.