(المقطع الأخير من المطولة الشعرية- النشيد)
نَهَضَ الصُّوفِيُّ مِنْ عَبَاءَةِ الْغَيبِ،
مُبتَلًّا بِالْحِكمَةِ
مُتَوَّجًا بِدَمعِ الْفَرَحِ
قَالَ: اتبَعنِي، وُجهَتِي الْآنَ طَرِيقُ النُّورِ
وَسَرَقَني كَالسَّاحِرِ بَينَ الْغَيبِ وَالْحُضُورِ
فَكوّنْتُ عَناصِري
مِنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْحِكمَةِ وَالنُّبُوءَةِ
وآمَنْتُ أنّ الْقَادِمَ
يَحمِلُ مَفَاتِيحَ الْحَياةِ
تَحصُدُ بَينَ يَدَيكَ الرِّيحَ
تَجعَلُ الْغَيمَ يَسقطُ ذَهَبًا
وَالْمَاءَ خَمرًا
عُرسُ قَانا
يَا فَرحَ الْكَأسِ فِي هُيامِ الرُّوحِ
يَا غَيمَ الرِّيحِ وَصَدى الْجُرحِ
وَفَرَحَ اْلآتي..
يَا صَبوَةَ الْإيمَانِ، تَسرِي، تَجرِي، فِي الْعُرُوقِ وَفِي الْأبدَانِ، بَينَ الْجُمُوعِ وَالتَّلامِيذِ وَ.. وَأعماقِ الْمَكَانِ.
وَ.. وَأعماقِ الْمَكَانِ.
أَلَمْ أَقُلْ إنّ الدُّنيا هَامِشٌ وَالإنسانَ مَقامٌ زَائِلٌ،
وَالْبَقَاءَ لعرشِ الرَّبِ، وَالعُرسُ مسافةٌ تَفصِلُ
مَا بَينَ الْمَاءِ وَبَينَ الْكُفرِ وَالإيمَانِ؟.
يَا عُرسَ قَانا الْجَليلِ.
قَالَ الصُّوفِيُّ كَلامًا..
عَنْ مُعجِزاتٍ نَزَلَتْ، عَن عُيُونٍ أَبصَرَتْ،
عَنْ أَجسَادٍ شُفيَتْ.. عَنْ مَجَاهِلِ الرُّوحِ فِي
أُفقِ الطِّيبِ سَكَنَتْ، بِرَوعَةِ لَمسَةِ يَدِهِ.
آمَنَتْ شُعوبٌ، وَكَفَرَتْ شُعُوبٌ،
وَأنتَ وَحدَكَ تَملِكُ السِّرَّ الأَخيرَ
مَسَحَ الصُّوفِيُّ شِفَاهَ الْكَأسِ، وَتَمتَمَ تَعويذَةً،
أَنزَلَتْ خَيطًا مِنْ آلِهَةِ الشَّمسِ،
نَسَجَهُ شُعَاعٌ مِنْ بَلّورٍ وَنورٍ وَأَقَامَ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ.
قَالَ: نُسافِرُ اللّيلَةَ
قلْتُ: هَلْ كَانَ هُناكَ
قَالَ: سَكَنَهَا رُوحًا وَجَسَدًا، كَانَ النُّورَ وَكانُوا النَّارَ
وَالآنَ يَظهَرُ ثَانِيَةً في بَاحَةِ الْهَيكَلِ..
مَعًا نُسَافِرُ، وَالطَّريقُ يَخرُجُ مِنَ التِّيهِ،
وَيَقودُنا إلى الْهُدى..
وَردَةُ النَّارِ تَقَدَّسَتْ
وَالْقُدسُ، تَحتَ مَشارِفِ يَدي،
كَالطَّيرِ تَطِيرُ كَأسرَابِ الْفُلِّ وَالْيَاسَمينِ،
كَظِلالِ الشَّجَرِ.. وَشَهَادَةِ الْحَجَرِ،
الْأرضُ وَالْمَكَانُ وَالتَّاريخُ..
المَوتُ وَالانْبِعَاثُ..
وَالْقُدسُ فَوقَ مَشَارِفِ يَديِ،
تَطيرُ بَينَ الْخَيالِ وَبَيْنَ الْجَمَالِ
وَالْجَمَادِ وَالْإنسَانِ..
وَتَسقُطُ فِي متحَفِ الصُّوَرِ..
تُسافِرُ مَا بَينَ الدُّهورِ وَخطَواتِ الْأنبِياءِ..
وَأنتَ الْعَائِدُ كَالرُّمحِ
كَالْخَيلِ عَلى صَهْوَةِ الْكَلِمَةِ
كَالرِّيحِ
تَسكُنُ فِي جِراحِ الْقَصيدَةِ..
أمَمٌ رَحَلَتْ
أمَمٌ كَالْعَنكَبوتِ نَسَجَتْ سِيَاجَ الْمَوتِ..
وَأغلَقَتْ نَوَافِذَ الْفَرَحِ وَأبوَابَ الْقَلبِ،
وَتَاجَرَتْ بِالْعَدلِ، بِالدّينِ، بِالْهَيكَلِ..
زَعزَعَتْ يَداكَ الْمَشهدَ
سِحرُ كَلماتِكَ طَافَ.. حَامَ.. حَولَ الدَّجَالينَ
وَقَلَبَ أركَانَ الْمَكَانِ..
الْآنَ تَقِفُ الْقَصيدَةُ، تَعودُ وَأنتَ هُنا..
غُصنُ فُلٍّ يَعبَقُ بَالْأريِجِ
تَنحَني السَّاحَاتُ، يَهتِفُ بِاسْمِكَ الْبَشَرُ
وَالْحَجَرُ وَأعمِدةُ الرُّخَامِ وَالزَّمَانُ.
تُزعزِعُ الْكَافِرينَ وَتَزرَعُ الْبُذورَ في الْأجسَادِ
لكَ الرِّيحُ وِسَادَةً وَالْخُبزُ جَسدُ الْعِبَادَةِ وَالْمَاءُ
خَمرُ قانا..
صَمَتَ الصُّوفِي،
وَالصَّمتُ فِي شَرِيعَةِ الْبَحرِ،
مَوتُ الْحَياةِ..
قُلْتُ: قُلْ شَيئًا، يَفضَحُ هذا الصَّمتَ،
يَقومُ مَقامَ الْعِطرِ لِلوَرْدِ
يَمُوجُ كَمَوجِ الْبَحرِ
يَعزِفُ عَلى إِيقَاعِ الرُّوحِ الْفَرَحُ
عَانَقَتْ عَينايَ الصُّوفِيَّ..
غِربَانٌ عَبرَتْ..
مَرَّتْ كَرِمَاحِ الْحِقدِ، الْمَوتِ..
وَجَوقَةٌ مِنْ نَعيقِ الْبُومِ تَعلَّقَتْ،
فَوقَ عَمودٍ عَارٍ مِنَ الْأسلاكِ،
بَاحَتْ، فَضَحَتْ سِرَّ الْمَكانِ لِلرّومانِ.
نَظَرَ الصُّوفِيُّ إليّ وَقَالَ:
سِكِّينٌ فِي الظَّهرِ يَأتِيكَ،
قَدْ بَاعَكَ الرِّفاقُ، غَسَلْتَ أرجُلَ التَّلامِيذِ،
كَيْ يَعْلُوَ اسمُ الرَّبِّ وَتُولَدَ مُدُنُ الْإيمَانِ،
وُلِدْتَ بَينَ الْبَهائِم، كَيْ تَكُونَ أمثولَةً للْإنسانِ.
وَالآنَ..
بَاعَكَ مَنْ سَكَنَ قَلبَكَ وَبَاحَ بِسِرِّكَ لِلْأعدَاءِ.
قَالَ الصُّوفيُّ وَبَكَى، وَبينَنَا مَسَافَةٌ مِنْ أَزمِنَةٍ
وأَمكِنَةٍ وَتَوارِيخَ وَشُهُودِ زورٍ تَدورُ فِي كُلِّ
الْأزمَانِ فِي ذَاتِ الْمكَانِ.
عَادَ الرُّومَانُ عَلى ضَجِيجِ نَعِيقِ الْبُومِ
وَالْقُدسُ نَرجِسَةٌ مِنْ ذَهَبِ الرّهبَةِ
مُعَلَّقَةٌ مَا بَينَ التّقديسِ وَالتَّكذِيبِ
مَا بَينَ حَضارَةٍ اندَثَرَتْ، وَحَضَارَةٍ قَامَتْ،
وَقِيَامَةِ الْمَسِيحِ..
عَلَّقُوكَ عَلى خَشَبِ الْخَطَايَا
أَنِينُ صرخَاتِ الْخَشَبِ وَالْحَديدِ
كَمَرَايا شَمْسٍ
سَطَعَتْ.
جِراحَاتُكَ..
آلامُكَ عَبَرَتِ الْمُستَحِيلَ
لْمَعَتْ نَازِفَةً مِنْ بَينِ الْمَسَامِيرِ
وَحدَكَ أنتَ الْمُنفَرِدُ بِالْعِشقِ
الْمُتَوَحِّدُ بِالْألوهيَّةِ..
دَمُكَ مَسَحَ خَطَايَانَا
أَغمَضَ الصُّوفِيُّ عَينَيْهِ وَقَالَ: أَظلَمَتِ الدُّنيا،
سَحَبَ اللهُ مِنَ الأَرضِ غِطَاءَ الضِّياءِ..
وأنَارَ النُّورَ فَوقَ خَشَبِ الصَّلبِ..
عِندَهَا،
كَانَ شَدْوُ الظَّلامِ عَالِيًا فِي أرجَاءِ الْمَكَانِ..
وَكَانَتِ الأُغنِيَةُ: مَسيحُ يَا مَسيحُ يَا فادي الْبَرَايَا.
كَالطَّيرِ الْعَائِدِ في الْمَسَاءِ
جَريحًا يُخفِضُ الْجَنَاحَ، يُغمِضُ الْعَينَينِ
يَبحثُ فِي البَرارِي عَنْ وَطَنٍ.. كَيْ يَنامَ
وَيَترُكَ الْكَونَ فِي كَنَفِ اللهِ وَالْعِبَادِ
أَنزَلوكَ عَنِ الْخَشَبِ،
وَسَاقُوكَ خُلسَةً عَلى ليلِ جُلجُلَةِ الْقِيَامَةِ..
وأنْتَ الْخَارجُ بِالنُّورِ،
كَمِثلِ عَمُودِ الصَّلبِ مِنَ الأَرضِ إلى السَّمَاءِ..
هَمَسَ الصُّوفِيُّ كَريحِ شَجَرٍ
يَصعَدُ إلى قُدسِ الْأقداسِ وَشَجَرٍ
يُعَانِقُ سَمَاءَ بَيتَ لَحمَ..
الْعَابِرونَ كَانُوا..
مُنذُ فَتَحَ التَّاريخُ عَينَيْهِ عَلى الطَّريقِ،
يَحمِلونَ أثقالَهُم، أَحمَالَهُم، أَحلامَهُم،
وَيَصعَدونَ مِنْ بَابِ الرِّيحِ إلى بَابِ السَّماءِ..
قُلْتُ: مُبارَكٌ صُعودُ الرَّبِّ،
وَمُبَارَكٌ هُيَامُ الْقَلبِ السَّابِحِ فِي مَلَكوتِ الْعَرشِ..
مُبَارَكٌ لِلْحَالِمِينَ فِي الْعِشقِ وَالْحَامِلِينَ كِتَابَهُم،
وَعَلى صُدُورِهِم، يَرفَعُهُم الْمَجدُ..
قَالَ الصُّوفِيُّ مَا بَينَ الْيَومِ الأَوَّلِ وَالثَّالِثِ،
صَعِدَ الْمَسيحُ إلى مَلَكُوتِ السَّمَاءِ،
وَصَعِدنَا مَعَهُ، بِالرُّوحِ وَالتَّقديِسِ..
صَعِدَ كَسُنبُلَةِ قَمحٍ لِلْجَائِعينَ،
الْمُبعَدينَ عَنْ حُقُولِ الْكَلِمَةِ..
صَعِدَ كَرَفَّةِ جَفنٍ بَينَ الطَّيرِ وَالشَّجَرَةِ..
وَكَمِثلِ بَرقِ السَّمَاءِ أنارَ الدُّنيَا..
عِندَها.. صَدَحَ النَّهرُ بِالْغِنَاءِ
وَاستَيقَظَ الزَّهرُ فَوقَ شِفاهِ الْمُعَذَّبينَ -
أُغنِيَةً للْحَيَاةِ..
قُلْتُ: سَلامًا عَليكَ وافْتَرَقنَا
كَانَ الصُّوفِيُّ يَبتَعِدُ، يَختَفي،
يَتَلاشَى بَينَ الظِّلِّ وَالضَّبابِ وَالْغِيابِ..
وَكُنْتُ غَارِقًا بِالنُّورِ.. مُتَوَّجًا بِالنَّارِ..
مُكَلَّلًا بِالْحَقِيقَةِ..
مَسكُونًا بِرَعشَةِ الْحُضُورِ.
هُوَ الآنَ أمَامي
يَسِيرُ بَينَ النُّجومِ..
حَامِلًا فِي يَدَيْهِ مَفَاتِيحَ السَّمَاءِ
أيقَظَني كَنَارُ الصَّبَاحِ يَشدُو
يَنقُرُ شُبَّاكِي وَيَهفُو لِلْغَدِيرِ
كَانَ حُلُمًا
سَكَنَ رُوحِي وَأنْتَ فِيهِ أجَمَلُ رُوحٍ
خُيولٌ مِنْ خَيالاتِ الشِّعرِ
تَعدُو فِي يَقظَتِي، تَخطُو فِي مُخَيِّلَتي،
كَمثلِ خُطواتِ الرَّعدِ، عَلى عَتَباتِ الْمَطَرِ
مِهرَجَانُ حُضُورِكَ سَيَّرَني..
سَيَّرَنِي وَأنتَ أمَامِي..
تَعلو فَوقَ الشُّهُبِ
سِراجًا سَرى نُورًا..
ملاكًا يسيرُ على الْمِيَاهِ
أسِيرُ مَعَكَ،
أسِيرُ بِقُربِكَ،
كَالظِّلِّ الّذِي خَطَّ خُطاكَ
بِتُرابٍ تَقَدَّسَ..
تَتَمَاهَى خُيولُ السَّمَاءِ،
وَصَهيلُ الْأرضِ.. صُراخَاتُ الرَّعدِ
وَالْجِيَاعِ الْفُقَرَاءِ..
تَأتِيكَ الْجُمُوعُ وَتَأتي الْمُعجِزَةُ..
كُلُّ أسمَاكِ بِحارِ اللهِ بَينَ يَدَيْكَ.
يُغَادِرُنِي وَيَمُرُّ كَالرِّيحِ الْمُعَطَّرِ
مَا بَينَ غِيابٍ وَغِيابٍ..
مَا بَينَ غِيابِ الْقَمَرِ وَشُرُوقِ
الشَّمسِ..
وَمَلايِينُ الْمُؤمِنِينَ تَقرَعُ الْأجرَاسَ..
وَالكَنَائِسُ تُوَزِّعُ مَفَاتِيحَ الصَّلاةِ
وَتَعلو التَّراتِيلُ وَالتَّرانِيمُ،
وأَصواتُ الْحَناجِرِ تُعانِقُ السَّمَاءَ
الْمَسِيحُ قَامَ
حَقًّا قَامَ
كَرَفَّةِ الضَّوْءِ وَبُزُوغِ الْفَجْرِ
وَأنَا الْمَوجُودُ حَتّى فِي الْغِيابِ
أترُكُ لِلعَالَمِ.. ..
أترُكُ بَينَ يَديْكَ رِسَالَةَ الْإنسانِ
"الْمَحَبَّة"
الشاعر الأديب: وهيب نديم وهبة