لم تعد زيارة الطبيب أو المتخصص النفسي محصورة فقط عند الأزمات وتفاقم الأعراض (ايستوك)
عشتارتيفي كوم- اندبندنت/
في وقت لم يكن فيه الحديث عن زيارة الطبيب النفسي مقبولاً حتى في أضيق الدوائر إذ كانت وصمة العار والجنون كفيلة بجعل الزيارة طي الكتمان، يشهد العالم اليوم تحولاً جذرياً، فلم تعد زيارة الطبيب أو المتخصص النفسي محصورة فقط عند الأزمات وتفاقم الأعراض، بل باتت يُنظر إليها كخطوة وقائية ضرورية يوصي بها كثر حتى في غياب أي مؤشرات مرضية.
تطور الأمر حتى أصبح بعض الناس يُشخص نفسه ذاتياً باضطراب أو مرض نفسي ويذهب لزيارة الطبيب مطالباً بتأكيد هذه التشخيصات على رغم ثبوت سلامته التامة، لمواكبة ما يروج له كثر في وسائل التواصل الاجتماعي أو اقتداء ببطل فيلم أو مسلسل.
ووفقاً لمقال نشر عام 2018 من جامعة كامبريدج بعنوان "ظاهرة جديدة... أريد أن أكون مصاباً باضطراب ثنائي القطب" الذي تحدث عن تزايد شعبية الاضطراب ثنائي القطب بسبب حديث بعض المشاهير عن تجاربهم الشخصية مع الأمراض النفسية، مما أسهم في إلغاء الوصمة عن هذ الاضطراب، بل وتحوله في بعض الأوساط إلى حال مرغوبة، إذ صار بعضهم يراه جزءاً جذاباً من الهوية الشخصية.
خطوة طبيعية لمواجهة الضغوط
تفسر المتخصصة الاجتماعية خلود الحمد التحول في النظرة المجتمعية تجاه زيارة المتخصص النفسي، مشيرة إلى أن هذا التغيير لم يكن وليد الصدفة بل نتيجة أعوام من التوعية وتصحيح الأفكار الخاطئة، فمنذ القدم ارتبطت زيارة الطبيب أو المتخصص النفسي بصفات قاسية كالجنون أو الإدمان، تغذت على الجهل وقلة الوعي مع غياب المعلومة الدقيقة لكن اليوم صار المجتمع أكثر تقبلاً ووعياً، وأصبحت النظرة اتجاه مراجعة المتخصص النفسي توصف كخطوة طبيعية لمواجهة ضغوط الحياة النفسية والاجتماعية، وليس بالضرورة نتيجة لاضطراب حاد، كذلك تشير الحمد إلى أن الإنسان في ظل تسارع وتيرة الحياة وتزاحم المسؤوليات قد يحتاج إلى من يساعده على إعادة التوازن وهو ما يجده لدى المختص.
وعلى رغم هذا التقدم تقول الحمد إن الوصمة لم تختف كلياً لكنها أصبحت أقل حدة، كما أسهم في هذا التحسن تقديم التوعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتعزيز مفهوم السرية التامة، مما يمنح الأفراد الثقة في خصوصية معلوماتهم ومشاعرهم، أيضاً سهولة الوصول إلى المتخصصين، إذ أصبحت الجلسات تعقد من بعد بمرونة ووضوح دون الحاجة إلى الظهور العلني أو المخاوف الاجتماعية، مشيرة إلى أن بعض الناس باتوا يعترفون بخطواتهم العلاجية، لكن هذه الشفافية لا تزال في حدود ضيقة لأن الوصمة وإن خفت لم تختف بالكامل.
نتائج عكسية
حذر الطبيب النفسي آلن فرانسيس في كتابه "إنقاذاً للسواء" من ظاهرة الإفراط في تشخيص الاضطرابات النفسية، التي باتت على حد وصفه، أشبه "بـموضة متقلبة تشبه في رواجها شعبية نجم روك أو مطعماً عصرياً أو وجهة سياحية"، في ظل غياب فحوص بيولوجية دقيقة أو تعريفات واضحة فاصلة بين السواء والمرض.ويرى فرانسيس أن عدداً كبيراً من الأشخاص إن لم يكن الغالبية قد شُخصوا خطأ كمصابين بأمراض نفسية، بينما هم في الواقع أسوياء بدرجة كافية مما أدى إلى تلقيهم علاجات لا يحتاجون إليها.
ويؤكد أن من طبيعة النفس البشرية أن تحزن وتتألم وأن هذه المشاعر لا ينبغي أن تفسر بالضرورة كعلامات على اضطرابات مرضية، فالتحديات الحياتية مثل الفقد والطلاق والمرض والمشكلات المالية والخلافات الاجتماعية، يجب أن تفهم ضمن إطارها الطبيعي، لا أن تعامل كحالات مرضية تستدعي التدخل الدوائي.
كما ينتقد فرانسيس الإعلام والمشاهير لإفراطهم في التشخيصات، مشيراً إلى أن تناولهم المفرط والدرامي للأمراض النفسية يخلق تصورات مشوهة وزائفة عن الواقع النفسي.
وفي السياق ذاته، يتفق عالما النفس جاك أندروز ولوسي فولكس مع فرانسيس، في مقال نشر عام 2023 بمجلة New Ideas in Psychology تحت عنوان: "هل تسهم جهود التوعية بالصحة العقلية في زيادة مشكلاتها؟" إذ يطرحان تساؤلاً نقدياً حول أثر حملات التوعية في الصحة النفسية العامة ويشير الباحثان إلى أن هذه الحملات على رغم نياتها الطيبة قد تؤدي إلى نتائج عكسية، عندما تبسط المفاهيم النفسية بصورة مفرطة، مما يدفع بعضهم إلى تفسير الضيق العابر أو مشاعر الحزن الطبيعية على أنها مؤشرات إلى اضطرابات نفسية خطرة، وهو ما قد يفاقم هذه المشاعر بدلاً من التخفيف منها، كذلك فإن الوعي الزائد حين يقدم من دون تمييز أو حس نقدي يمكن أن يصنع مرضاً من الوهم ويضخم الضيق الطبيعي إلى أزمة نفسية غير مبررة.