تهنئة من المجلس الشعبي الكلداني السرياني الاشوري (سورايا) الى قداسة البابا ليون الرابع عشر      مؤتمر عمّان عن مسيحيّي المشرق... دعوة للوحدة والتنوير في مواجهة التطرّف والتمييز      غبطة البطريرك يونان يشارك في جلسات مؤتمر "المسيحيون في المشرق العربي وطموحات الوحدة والتنوير"، ويترأّس إحداها، عمّان - الأردن      نيجيرفان بارزاني مهنئاً البابا الجديد: إقليم كوردستان يظل ملتزماً بالتعايش والوئام بين الأديان      مسرور بارزاني يهنئ البابا الجديد بريفوست بانتخابه رئيساً للكنيسة الكاثوليكية      غبطة البطريرك يونان يهنّئ بانتخاب قداسة البابا الجديد لاون الرابع عشر      قداسة البطريرك مار كيوركيس الثالث يونان يحتفل بذكرى القديس كيوركيس الشهيد في نهلة      المنظمة الآثورية الديمقراطية تهنئ قداسة البابا ليو الرابع عشر      السوداني يهنئ البابا الجديد باختياره لرئاسة الكنيسة الكاثوليكية      رئيس الجمهورية يهنئ بابا الفاتيكان الجديد ‎بمناسبة انتخابه      المحكمة الاتحادية العراقية ترفض إصدار أمر ولائي ضد قانون تحويل حلبجة إلى محافظة      "ترامب أكد أن التفاوض مع بوتين صعب".. مصادر أميركية تكشف      مسيرات وخرق إلكتروني.. تفاصيل هجوم باكستان المضاد على الهند      نمط حياة شائع يساوي خطر التدخين على صحتك      كيف يعيش بابا الفاتيكان ماديا؟.. راتب رمزي ومصاريف مشمولة      تحديد موعد مغادرة أنشيلوتي عن ريال مدريد      البابا لاوُن الرابع عشر: دعوتنا هي أن نشهد بفرح      ايران تنفي.. صور أقمار صناعية تكشف منشأة نووية سرية على 2500 فدان شمال البلاد      وزير الداخلية العراقي يطعن بمنح جوازات دبلوماسية لشاغلي 14 منصباً رفيعاً وعائلاتهم      العمال الكوردستاني: اتخذنا قرارات تاريخية بناء على دعوة أوجلان
| مشاهدات : 971 | مشاركات: 0 | 2021-08-30 07:58:18 |

خبرتي مع النحل، تضحية الفرد وفاعلية المجموع

المطران د. يوسف توما

 

بين النحل والبشر علاقة قديمة تعود إلى عصور سحيقة، والنحلة من حيث الوجود أقدم من الإنسان، ولفترة طويلة كان العسل أهم مصدر للسكر مع الفاكهة، وبعد أن صار يراقبها أعجب بها، بل أخذ يفكر بها كانعكاس له ولحياته الاجتماعية، تعلم منها الكثير وأخذها رمزًا للسلطة الملكية ثم الجمهورية، وهكذا يمكننا قراءة تصوراته للنحلة واقتدائه بها ليجعلها نموذجا، وحدث هذا خصوصا في عصر الأيديولوجيات (قرن 18 - 20) حيث كانت مادة لتصوراته وخيالاته وكيف عليه أن يعيش في المجتمع.

اكتتشف الآثاريون في جنوب تركيا الحالية قرب قرية (جطل هويوك) أقدم تجمع بشري زراعي مستقر، فقبلها كان الانسان في حالة بداوة يصيد ويجني، غير مستقر. يعود استقراره إلى 12 ألف سنة وما لاحظه العلماء أن بيوت تلك القرية أشبه بخلية النحل مساكن مدورة مطبوقة ببعضها، بابها من فوق. مثل هذه الأفكار راودت أفلاطون (428 -348 ق.م) حين دعا إلى بناء مدن كخلايا النحل، لكن معماريي زمانه لم يقتنعوا على ما يبدو بتحقيق رغبته، فبقيت أفكاره مجرد أفكار و"مثاليات" غير قابلة للتطبيق.

هكذا بقيت العلاقة بين النحل والبشر حبًا من طرف واحد، إذ لم يفهم البشر النحلة بل كانت انعكاسا لتصوراتهم، فالإنسان منذ القديم لم يفهم النحلة بل عدّها مجرد حشرة كالخنافس، التي عبدها المصريون القدماء لكونها تدفع كرة الروث التي تشبه الشمس! أو مثل الصرصور الطنّان، الذي عدّه لافونتين نموذج الإنسان الكسول، عدم دقة القدماء جعلتهم لا يفرقون بين النحلة والذبابة. ما يكشف حقيقة الانسان أنه ذاتي في كل شيء ضعيف بالموضوعية، وهذا تكشفه لي كل يوم دراستي للأساطير والتصوّرات وأقوال القدماء. ما يهم الانسان هو أن يستفيد من النحلة لذا تأخر حتى أواسط القرن العشرين كي يدرسها بجدية، حين قام النمساوي كارل فون فريتش (1886 - 1982) بمراقبة الخلية وتفكيك أسرارها، فحاز على جائزة نوبل عام 1973، مع مواطنه كونراد لورنتز Lorentz الذي فكك غريزة الأمومة لدى طيور الوز، منهما تعلمنا الموضوعية.

مسألة الذاتية والموضوعية مقياس لزماننا يشفينا من كل تعصب الذي يجعل القناعات ضعيفة ومهزوزة، فالذين جعلوا النحلة شعارا لأفكارهم ووضعوها على الأعلام إلى جانب النسر والصقر والعقاب خدمة لأفكارهم السياسية، منذ نابليون بونابارت الذي لبس يوم تتويجه امبراطورا عام 1804 معطفا من مخمل أرجواني عليه أشكال مذهّبة من النحل. وجاء بعده نابليون الثالث ليحضر حفلة اوبرا عام 1858، قدمها أوفنباخ، مثّل فيها الإمبراطور بالنحلة لكن شكلها كان أقرب إلى الذبابة مما أزعج الملك، وضحك ساخرا ومستنكرا...

لكن النحلة، بقيت تتجاهل البشر وحدودهم واستطاعت أن تتكيف مع أشكال المناخ وانتشرت في أنحاء العالم، حتى تمكنت أن تعيش في صخب المدن، كما فعلتُ في ثمانينات القرن الماضي، حين لجأتُ إلى تربيتها في ديرنا ببغداد، ليس لعسلها فقط بل لأتعلم منها ولكي تخرجني من كتبي ونظرياتي و"تقرصني" كلما خالفت القواعد معها! فعلمتني أن أتجاوز خوفي وجهلي بها، بحيث يوم زار بغداد الكردينال اتشيغاراي (شباط عام 2003) كان وجهي منتفخا، لأني تعاملت مع النحل باستعجال، من دون لبس قناع واستعمال منفاخ الدخان، وعلى مدى 14 سنة علمتني النحلة الانضباط والعمل الجاد مع العقل الجمعي. قرأت عنها الكثير وقد ملأت الحكايات وقصص الأطفال وأفلام الكرتون وصارت بشكل لا شعوري واحدة منا، فقال أينشتاين عنها: "لو انقرض النحل سيلحقه البشر لا محالة بعد جيل، كونها هي المسؤولة عن تلقيح كل النباتات والأشجار".

من يتصفح الأدبيات السياسية يرى أن دعاة الملكية استغلوا النحلة لإبقاء النظام الملكي. لكن كل الثوار رفضوا ذلك، فلم يقبلها توماس جيفرسون، واضع الدستور الأمريكي، وقال "ليست للنحلة موطن في قارتنا"، وذلك في عام 1782، مسلطًا الضوء على ضرورة الإبقاء على الطبيعة الجمهورية للولايات المتحدة الفتية وعدم الانسياق وراء الأوهام الأوربية. فالقارة العجوز، بقيت تعاني من غليان أفكار أيديولوجية استعمارية وقمعية، واستعانوا بمجتمع النحل ليعيدوا الإنسان إلى وضعية أقرب إلى "حشرة" سياسية يعمل بخبز بطنه فقط. بحيث نتعجب من جميع القصص والملاحم الدينية السائرة في هذا المنظور، نظريات لخدمة أطراف وأحزاب، تبنتها دون أن تدقق آراءها. فتأرجح المفكرون بين الملكية والجمهورية، وأمسك البعض العصا من الوسط فقيل على الملك أن يطيع الشعب حتى لو بقي في القمة، فالجماعة تعطيه الشرعية، وهو يملك بلا سلطة، إنها الملكية الدستورية، لا تحكم إلا إذا قرّرت العاملات. وهكذا بين السلطة والحياد استطاعت بعض النظم الملكية مثل بريطانيا أن يبقى بعض ملكاتها سبعة عقود: فكتوريا، اليزابيت الأولى واليزابيت الثانية، المالكة السعيدة وقد تجاوزت بالديمومة جميع أسلافها وعاصرت تقلبات ازمنة وحروب.

في الطرف الآخر من اللوحة، أعجب المفكر السياسي برودون Proudhon 1809 -1865، بهذه "الغريزة العمياء المتقاربة والمتناسقة القادرة على توزيع المهام بين العاملات"! إنه مجتمع مثالي، فيه يتخلى الفرد عن كل فكرة تملك "فيستطيع الجميع العمل من دون البحث عن مبرر لعمله، بلا قلق إذا كان يقوم بمهمته لا أكثر ولا أقل (...) فيحضر نتاجه، ويتقاضى أجرته، ويستريح بضع ساعات، كل هذا من دون حساب، ولا غيرة من أحد". لذا قيل "إن النحلة "شيوعية" بمعنى الكلمة، لأنها تميل إلى مصلحة الجماعة قبل الفرد!

خلية النحل مجتمع متساوي

إن وجهة نظر مفكرين مثل برودون، تفيد أن النحل يشجع على تحدّي كل سلطة، وهذا ما أثار استياء كارل ماركس (1818 - 1883). فقال عنها: بالتأكيد لا يوجد أي مهندس مهما كان ماهرًا أن ينشئ بيتا سداسيا دقيقا كما في خلية النحل، لكن ما يميز أسوأ مهندس معماري عن النحلة، أنه من البداية يبني الفكرة في دماغه قبل أن يحقّقها. فتفوّق الإنسان يكمن في وعيه المسبق بأفعاله، بينما النحلة لا تفكر بالشكل السداسي المثالي للشمع الذي تنفّذه. في هذا العصر انقسم الناس مع النظريات الاشتراكية وضدّها، لكن اغراء مجتمع النحل المتساوي بقي يروق بشدّة لمفكري الحركة العمّالية، بينما قال خصومهم إنه لإحباط تام، بل مرادف لإنسانية واقعة في "عبودية الغريزة" من المحرومين من هذه "الحرية التي تتمثل بالقدرة على ارتكاب الأخطاء، والقدرة على المعاناة". إنّه صراع الليبراليين والماركسيين الذي دوّخ البشرية في مجمل القرن العشرين وشكل حروبا باردة وحارة وتحالفات كان للنحلة دور الحَكَم في نظريّاتهم السياسية.

مررنا إذن في أزمنة طويلة أسهمت النحلة بتغذية الأيديولوجيات، في ظل إرث الاقتصاد التعاوني والاشتراكي، فاستهلكوا رموزًا نسبوها إلى النحل. حتى قام رجل الأعمال جان بابتيست أندريه غودان (Godin)، بإنشاء "رابطة تعاونية لرأس المال والعمل"، مجمّعات سكنيّة كالخلايا تهدف إلى تقديم الرفاهية للعمال في السباكة، انموذج "يلعب التضامن فيه دور ملكة النحل". في حين استمر عدد من مؤسسات الادّخار والتأمين بالاعتماد على فكرة خلية النحل، حتى تبنّتها الجماعات الماسونية، يتجمعون في منازل يسمّونها "خلايا النحل" ويتبنون في أدبياتهم تعابير نحليّة.

مع ذلك، لا تحتاج النحلة إلى البشر كي يقحموها في نظرياتهم بشأن السلطة، فطبيعتها سياسية "حيوانية" بشكل واضح، يكفي رؤيتها وهي تعمل في الخلية، تختار العاملات الملكة، بإطعام عدد من اليرقات غذاءً ملكيًا. المولودة الأولى من اليرقات تمارس اغتيالًا سياسيًا بالقضاء على منافساتها، ثم تحرص على انقلاب لإجبار الملكة المنتهية ولايتها على الانفصال (التطريد) عن الخلية مع قسم بقي مواليا لها. وبمجرد الخروج، يتعيّن على الطرد الجديد اختيار مكان آخر. فتقرر عاملات كشّافات يحصلن على موافقة جماعية بقرار اجتماع عام. ويتم كل شيء بالرقص لدعوة الآخرين للانضمام إليهن وإظهار دعمهن. فيصلن أخيرًا إلى الموطن الجديد من دون أن ينشق أحد من الأعضاء. إنه سر كبير وزخم حيويّ مؤطر بمركزية ديمقراطية، ولا يزال بعض من هذا السر محيّرًا، لذا قارن الشاعر الألماني الكبير راينر ماريا ريلكه Rilke (1875 - 1926) البشر بالنحل فقال: "البشر مثل نحل في الكون، يبحثون بشغف عن عسل مرئي ليكدّسوه في جرّة ذهب غير مرئية هائلة".   

كركوك 28 آب 2021










أربيل - عنكاوا

  • رقم الموقع: 07517864154
  • رقم إدارة القناة: 07504155979
  • البريد الألكتروني للإدارة:
    [email protected]
  • البريد الألكتروني الخاص بالموقع:
    [email protected]
جميع الحقوق محفوظة لقناة عشتار الفضائية © 2007 - 2025
Developed by: Bilind Hirori
تم إنشاء هذه الصفحة في 0.4914 ثانية