قداسة البطريرك مار افرام الثاني يحضر رسيتال "صوم وصلاة وتوبة، نحن أبناء القيامة" والصلاة من أجل المطرانين المخطوفين      مدينة القامشلي تحيي الذكرى الـ109 على الإبادة الأرمنية      غبطة البطريرك يونان يشارك في احتفال ذكرى مذابح الإبادة الأرمنية في بطريركية الأرمن الكاثوليك، بيروت      المطران مارنيقوديموس داؤد متي شرف يستقبل البروفيسور لازلو كوكزي وسعادة القنصل الهنكاري      الرئيس بارزاني يستقبل بطريرك كنيسة المشرق الآشورية وأساقفة المجمع المقدس      قداسة البطريرك مار آوا الثالث يترأس الاحتفال بالقدّاس الإلهي ‏لمناسبة تذكار مار كيوركيس الشهيد‏ - نوهدرا (دهوك) ‏      أحتفالية بمناسبة الذكرى 109 للأبادة الجماعية الأرمنية - كنيسة القديس سركيس في قرية هاوريسك      بحضور السيد عماد ججو .. انطلاق المهرجان الادبي الاول للغات الام (الكردية والتركمانية والسريانية ) في محافظة اربيل      غبطة البطريرك ساكو يستقبل راعي الكنيسة المشيخية في اربيل      بالصور.. انطلاق اعمال المجمع السنهادوسي لكنيسة المشرق ‏الآشوريّة ‏- أربيل      حملة لرفع 300 طن من النفايات والبلاستيك من بحيرة سد دربندخان      مستشار حكومي يحدّد موعد البدء بتنفيذ مشروعي مترو بغداد وقطار النجف – كربلاء      للمرة الثانية.. جراحون أميركيون يزرعون كلية خنزير لمريض حي      فيلسوف يبشر بـ "يوتوبيا" للذكاء الاصطناعي الخارق: ليس كارثة      فرنسا: قوة التدخل السريع الأوروبية ستبصر النور العام المقبل      "أكثر مما تعتقد".. ماذا تفعل تطبيقات المواعدة بمستخدميها؟      "قطار" مان سيتي لا يتوقف.. رباعية في مرمى برايتون بالدوري      فرنسا.. إلقاء القبض على "إرهابي" الأولمبياد      كهرباء كوردستان: التيار الكهربائي سيعود إلى طبيعته غداً الجمعة      بدء عملية أمنية واسعة في البتاوين ببغداد تستمر عدة أيام
| مشاهدات : 2058 | مشاركات: 0 | 2015-08-27 19:36:37 |

معهد مار يوحنا الحبيب الدومنيكي بالموصل: نبعٌ وارفٌ من العطاء غابَ

لويس اقليمس


 

ما حملني للكتابة عن معهد مار يوحنا الحبيب، الذي أدارته الرهبنة الدومنيكية بالموصل بجدارة قرابة قرنٍ من الزمن،هو تجنّي أحد زملائنا الكتاب الوقورين على الدور الريادي الذي تولاه هذا المعهد الكهنوتي المعطاء واثرِه في رفد كنيسة العراق بنخبة من الكهنة والأساقفة والبطاركة للكنائس الكلدانية والسريانية على السواء. وهي ذات الانتقادات التي كانت تشوّش على هذا المعهد في حقبة الستينات والسبعينات، وربما ما قبلها أيضًا.

 وإذ أنضمّ بروح اخوية، إلى الزملاء المنصفين من الكتاب النبيهين والمتابعين المجدّين لما نُشر مؤخرًا من مداخلات وردود هادئة أو غاضبةعلى صفحات المواقع الالكترونية الموقرة، ومنها هذا الموقع الكريم، فقد ارتأيتُ كتابة مقالة صغيرة منصفة عنه، بدل الانزلاق في ردود قد لا ينفع معها شكل الاتهام والمدافعة التي تدورحول مواضيع فيها قسطٌ من الحساسية للبعض غير الملمّ. وبهدف إعطاء شيءٍ من القيمة والحقّ اللذين تستحقهما هذه المدرسة المتخصصة في التنشئة الكهنوتية بالعراق، وددتُ أن أكتب شيئًا كردّ جميلٍ لما قدّمه لهاتين الكنيستين بخاصة، وكنيسة العراق عامة.

وكما سبق وأن قلتُ في مناسبات عديدة، وهذا ما يعرفه عنّي الزملاء الكتاب والمتابعون لما أكتب، فإنّي متجنّبٌ الردّ والتعليق في المواقع وأشكالِها، تاركًا للقارئ الكريم استيعاب المقصود في كتاباتي بحسب قناعة الأخير وإلمامِه بالموضوع المثار. ولكون ما أتيتُ للإيضاح عنه، يخصّ مؤسسة تنشئة دينية، علمية، مسكونية، تثقيفية، جامعة بكل المعاني، أنقل للقارئ الكريم شذرات من مراحل ومحطات تأسيس هذا المعهد ودوره في رفد كنيسة العراق والمنطقة والعالم بنخبة من الكهنة المثقفين دينيًا وعلميًا وأدبيًا وفلسفيًا ولاهوتيًا وأدبًا وفضيلًة. ومنهم مَن ارتقى أعلى الدرجات الكهنوتية في كنيستِه، كالبطريرك الكردينال الراحل جبرائيل تبوني للسريان الكاثوليك الذي  جلس على منصة الرئاسة الفاتيكانيةحينمشاركته في المجمع الفاتيكاني الثاني. كما نذكر الراحل غبطة البطريرك يوسف غنيمة والبطريرك الحالي لويس روفائيل الأول ساكو، الذين نهلواجميعًا، من ذات النبع الوارف، إلى جانب العشرات من الأساقفة والقساوسة الذين أثبت الكثير منهم جدارة في الأدب والفن واللغة والشعر، جنبًا إلى جنب مع سمات الفضيلة والقداسة التي تربّوا عليها.

            وبالإمكان الاطلاع على العدد الأخير من مجلة الفكر المسيحي (505-506 لشهري أيار وحزيران 2015)، الذي نشر تفاصيل أكثر،عن تاريخ ومهام وإنجازات معهد مار يوحنا الحبيب، بإدارة الآباء الدومنيكان، بالموصل (المقال بقلم الأب جان ريشارد، الدومنيكي، وترجمة المطران يوسف توما).

 ليس لكوني أحد تلامذة هذا المعهد، القدامى، أكيل المديح والإطراء للقائمين على تربية أجيال، قرابة قرنٍ من الزمان، لأنّ هذه المؤسسة الدينية الجامعة ليست بحاجة لدفاعي ولا لدفاع زملائي واصدقائي، الذين كنّا نمنّي النفس معًا، بلقاء يجمعنا في صيف 2014 ثمّ تأجل لصيف 2015، من دون أن تتحقق الأمنية. فالأشرار والسيّئون من كارهي ثقافة الحياة في هذا العصر، قد تكاثروا وازدادت شرورهم، فحرمونا من هذا اللقاء الذي كنّا بدأنا بالإعداد له لتحقيقه، لو أنّ يد الدواعش لم تغتل هذه الأمنية في غفلة من الزمن في حزيران وآب 2014!

على أية حال، لم أسمع قط، تلميذًا سابقًا ممّن لم يسعفه الدهر أن أكملَ ما بدأه في المعهد المذكور، أو كاهنًا أو مّن تدرّج واعتلى درجة أرقى، قد استاء يومًا من هذه المؤسسة التنشئويةالرائعة التي كانت تجمع أفرادًا من كلتا الطائفتين الكاثوليكيتين، السريانية والكلدانية، ليلتقوا في أروقته وصفوفه وكابيلتِه ومناسباتِه، فيشعرون أنهم أصبحوا إخوة وأبناء عائلة واحدة يجمعُهم هدفٌ واحد من حيث يدرون أو لا يدرون، ألا وهو رفدهم بعمقٍ وافرٍ من المعارف والتقوى والفضيلة والتسلّح بروحانية وثقافة دينية واجتماعية وأدبية وعلمية وفلسفية ولاهوتية معًا. قد نكون ونحن في أروقة المعهد، ننتقد إجراءات إدارية كنّا نعدّها متخلّفة أو عتيقة أحيانًا، ولكنّنا جميعًا، كنّا نجد فيه، إدارة ومبنى وفعاليات وعلومًا وثقافة وسفرات أسبوعية وشهرية واحتفالات وغيرها، من أروع ما نتذكرُه ونصبو إليه ونشتاق للعودة إليه في كلّ يوم وكلّ لحظة، ونحن نتذكر تلك الأيام الخوالي.

كنّا نسمع أحيانًا انتقادات غير مبررة من جانب نفر ساخطٍ تصدر في الأغلب، عن ذوات من الكنيسة الكلدانية ومقرّها البطريركي بالذات، آنذاك. ولو أنّ تلك الانتقادات والسخط كانت أحيانًا، تدخل ضمن باب النقمة والغيرة لما كان قد حققه معهد مار يوحنا الحبيب، مِن نجاح منقطع النظيرومن سموّ ورفعة ومحبة وشهرة وتربية، داخليًا وخارجيًا، إلاّ أنّ أمثال تلك الممارسات غير المقبولة في حينها، لم تزعزع من القيمة العليا لإدارِته الغيورة وأساتذته المجدّين والدعم الذي كان يلقاه من رئاسات وأفراد، داخليًا وخارجيًا. وهل ننسى، أنّ مَن حصلَ على أحسن الوظائف وعمل مع شركات أجنبية أو في مؤسسات الدولة المهمة في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كانوا من قدامى التلاميذ تاركي المعهد المذكور؟ وهل ننسى أنّ أفضل الكتاب الذين نوّروا القلم العربي ورفدوا مجلاّت وصحف وألّفوا كتبًا ومارسوا الترجمة والنقل من الفرنسية إلى العربية وبالعكس، كانوا من خيرة تلامذة هذا المعهد؟

لذا، فإنّ الفكرة عن كون المعهد المذكور (1878-1975) أو الإرساليات الكاثوليكية عامة، مرتبطة بالاستعمار، ادّعاء غير مقبول ولا يليق بمثل هذه المدرسة المهمة في تاريخ العراق، التي مع اختفائها في أواسط السبعينات مرغمةً، شابَ كنيسةَ العراق انهيارٌ، وتراجعت قوّتُها وتأثيرُها، واعتراها الضعف وقلّة الخبرة والعلم، وافتقرت المؤسسات التي تلتها إلى شيء اسمه التنشئة الكهنوتية العميقة. وإلاّ، بماذا نصف الفوضى في كنائس اليوم، والخروج عن السلوك الرهباني والكهنوتي لنفرٍ تحزّبَ لهذه الكنيسة أو تلك الجهة أو التفّ حول هذه الشخصية أو ذاك رفيع المقام؟

            مهما يكن من أمرٍ، فمَن شاء الإساءة لمثل هذا الصرح الديني التثقيفي، مهما كانت الدوافع والأسباب لديه، فهذا له شأنُه وله حريتُه. ولكن ليسَ من المقبول ولا من اللائق التعميم وتصوير الحقائق بحسب الأهواء لتتناسب مع أغراض شخصية وفئوية وطائفية، دخل التحزّب والتعصّب الكنسيّ في خانتها،إن في الماضي أوالحاضر. تحقيق رؤية شخصية فيه قدرٌ من الحكمة، ويعني التواصل أيضًا وإبداء الرأي في شؤون الرعية وإدارتها، ما يمنح قوة وزخمًا للمتلقي والسامع الغائب والحاضر. أمّا النقد لأجل النقدوالتسقيط، وقيام نفرٍ أو طرفٍ بتلبيس هذه المدرسة ذاتالشأن العريق في جسم كنيسة العراق، فروةً لم يُحسن صانعُها ومروّجُها تشذيبَها جيدًا، فهذا يدخل ضمن باب الحقد والغيرة إزاء الجهة المقتدرة التي أثبتت طيلة مائة سنة أنها كانت الأجدر والأرقى والأفضل في التنشئة المسيحية والكنسية والكهنوتية، ناهيك عن تأثيرها الواضح وسط المجتمع المسيحي والعراقي معًا، في العديد من المجالات.

 

 

من ألبوم الماضي: محطات تاريخية

أتوق لتوجيه تحيةَ محبة ومودة وشوق لزملائي القدامى في معهد مار يوحنا الحبيب، ومَن عشتُ معهم أو سمعتُ عنهم أو تربيتُ على أيديهم. فمن انتقل إلى ديار ربّه، رحمه الله، ومَن مازالَ يعيشُ حياتَه، له منّي كلّ تحية وشوق وأمنية ودعاء. فقد أمضيتُ في هذا المعهد سبع سنوات، وكنتُ أصغرَ تلميذ فيه حين دخلتُه في عام 1967 وبقيتُ فيه لغاية غلقِه في 1973، وافتراق التلاميذ وتوجههم لخدمة العلم مكرّهين، بسبب سحب حكومة النظام السابق اعترافَها به، وبقاء التلاميذ الجدد فقط، الذين كانوا يرتادون المدارس الرسمية فيه لبضع سنوات لاحقة!

وتلك كانت بداية النكسة في العملية التثقيفية والتنشئة الكهنوتية لكنيسة العراق. وإنّه بفضل المعهد المذكور، أنا ونخبة من الأصدقاء والزملاء التلاميذ القدامى قد أُتيح لنا ارتقاء وظائف ومناصب متميزة واكتساب خبرة وملَكة في الكتابة بالسريانية والكلدانية والعربية والفرنسية على السواء. ومَن لم يسعفه الحظ في إكمال مشوار دراسته الكهنوتية، لأيّ سبب كان، فقد كوّنَ عائلة مسيحية ونقلَ إلى أفراد أسرتِه، شيئًا من تلك التنشئة المسيحية الكاثوليكية المتميزة.  أليسَ هذا بفضل ما تلقيناه من دراسة وتنشئة وعلومٍ وآدابٍ وخبراتٍ ومعارف متنوعة من هذا المعهد الغالي؟ أم نكون ناكري الفضل وبائعي الذات بسبب حالات انتماء غير موفقة وأهواء تعصّب وتعنّت ومكابرة لعنصر في الدين والقومية والطائفة، فنكون مثل مَن لا أصلَ له ولا كلمة شرف ولا غيرة؟

أكتفي بهذا القدر، وأرجو من كلّ ممَن له ذكريات طيبة عن المعهد المذكور، ألاّ يبخل في الكتابة ونشر ما في ملكتِه. كان لي مشروع للكتابة عن معهد مار يوحنا الحبيب بالتعاون مع الأب (المطران) يوسف توما الدومنيكي قبل أكثر من ثلاث سنوات، أخصّ به مجلة الفكر المسيحي. لكنه تأجّل مرارًا، بسبب انشغالات كثيرة. وقد يأتي اليوم الذي أتفرّغ إليه مشفوعًا بالصور. وأرجو أن يكون قريبًا، كي أعطي ولو جزءًا من الجميل الذي له عليّ وعلى شخصي، في الكنيسة والمجتمع وجانب الثقافة والكتابة والخبرة والمعرفة.

 

تأسس معهد مار يوحنا الحبيب، بحسب الأب ريشارد الدومنيكي الذي أنقل عنه هذه الشذرات، في 27 كانون ثاني 1877، يوم عيد مار يوحنا الحبيب، واستقبل أول أربعة مرشحين في 10 كانون ثاني 1878 بإدارة الأب برنارد كورماشتيك البلجيكي في بناية ملاصقة لدير الآباء الدومنيكان بمنطقة الساعة التي أخذت الاسم من الساعة الشهيرة التي بناها الدومنيكان، ثم انتقل المعهد إلى دار القصادة الرسولية بعد انتقال القصادة إلى بغداد. وتمت رسامة أول ستة كهنة في عام 1889.

في عام 1906 بلغ عدد الطلبة فيه 54 تلميذًا. ثمّ تعرّض للإغلاق خلال فترة الحرب العالمية الأولى، لغاية 1923، حينما التحق فيه 12 طالبًا فقط. وظلّ يتوسع في أعداد المرشحين له من قبل كلتا الطائفتين الكلدانية والسريانية الكاثوليكية. وبسبب هذا التطور في طلبات الالتحاق به، صار التوجّه بشراء دور جديدة مجاورة وضمّها للمبنى الرئيسي، كي تحوي عدد التلاميذ الذي قاربَ 100 تلميذ في بعض السنوات اللاحقة.

توالى على إدارة المعهد، بعد الأب كورماشتيك، الأب سبساستيان شيل، ثم الأب يوسف أومي الذي أداره طيلة 40 عامًا، بنشاطه الملحوظ وغيرته المميزة، حتى انشطاره في 1971 إلى قسمين: قسم الصغار أداره الأب ريشارد، فيما قسم الكبار أُنيط بالأب الدومنيكي كاميلو ثمّ بالأب (المطران الراحل) ميخائيل جميل.

كان المرشحون إليه يخضعون لتوصية كاهن الرعية وموافقة رئيس الكنيسة ولتقييم رئيس المعهد، بحيث كان ثلث العدد للسريان والثلثان للكلدان. وكان للمعهد قوانين خاصة صارمة، بحيث لا يصمد في نهاية المطاف سوى عدد قليل من الدارسين، قد لا يتجاوز أصابع اليد أو أقلَّ منها في بعض السنين. أما مدة الدراسة، فكانت ست سنوات لقسم الصغار، ثمّ أصبحت خمسًا، وست سنوات لقسم الكبار (سنتان لدراسة الفلسفة ومواد أخرى، وثلاث سنوات لدراسة اللاهوت مع مواد أخرى مؤازرة). وكان التلميذ الجديد يُفرض عليه تعلّم التحدث باللغة الفرنسية في الأشهر الثلاثة الأولى من دخوله المعهد، وبعدها يخضع لعقاب معيّن، لو حاول بغير ذلك. وبهذه الطريقة سهلَ تعلّم الفرنسية للجميع.

إنه وبسبب إقبال التلاميذ على هذا المعهد وتراجع أعداد تلامذة معهد شمعون الصفا الذي كانت تديره البطريركية الكلدانية، فقد لزم الأمر في عام 1970، تدخل الفاتيكان عن طريق مجمع الكنائس الشرقية للبت في أزمة بين إدارة المعهدين، كما يبدو. وقد أوصى المجمع بإكمال المشوار على أيدي الرهبنة الدومنيكية، تاركًا حرية الاختيار بين المدرستينللتلاميذ وذويهم وأساقفتهم.

من ضمن المواد التي كانت تُدرّس في معهد مار يوحنا الحبيب، العربية والفرنسية والسريانية والكلدانية إلى جانب العلوم الدينية المختلفة من فلسفة ولاهوت وكتاب مقدّس، من التي تقدّم تنشئة عالية ترقى إلى ما كان يتلقاه أمثالُهم في معاهد غربية مماثلة.

ولعلَّ من أجمل الأيام التي لا يزال التلاميذ القدامى يتذكرونها على مرّ أيام الدراسة السنوية، ذلك اليومان المخصّصان للنزهة الأسبوعية بعد الظهيرة، إلى مناطق في ضواحي الموصل، وفيها يمشون مسافة حتى يختاروا موقعًا مناسبًا للعب كرة القدم وألعابًا أخرى. كما كانت إدارة المعهد تقدّم سفرة شهرية إلى مكان بعيد في القرى المسيحية أو المناطق الآثارية أو على جانب الأنهر والمعالم التاريخية، وفيها كانت تُشكل أحيانًا ما كنّا نسمّها ب "مجاميع المجانين" التي تختار المشي فجرًا وصولاً إلى موقع السفرة المقصودة بالتوالي مع قدوم الباصات التي كانت تقلّ باقي التلاميذ مع الإدارة والآباء والمعلّمين. وحين الوصول نتناول اللفات ثمّ يأتي وقت الغداء مع المعلّبات وبرنامج السفرة الجميل.في حين، كان التلاميذ حتى الستينات يقضون أيامًا في العطلة الصيفية في أحد الأديرة التابعة لكنائس الموصل، حيث كانَ لهم مثل هذا النشاط بمثابة معسكر صيفي. وفي الصيف، كان يُطلب من التلاميذ تأدية واجبات دراسية إضافية متعددة، تدخل ضمن درجات نتائج الدراسة النهائية. ناهيك عن تقليد يخص قسم الكبار، بزيارة عوائل أو مؤسسات مثل السجون وبيوت الأيتام والأرامل وعائلات غير ممارسة لتقليدها الكنسي والديني، كجزءٍ من رسالة مسيحية يعتاد عليها حين دخولِه معترك الممارسة الكهنوتية بعد التخرّج.

في عام 1967، زار معهد مار يوحنا الحبيب، الكاردينال دي فورتسمبرغ، رئيس المجلس الحبري للكنائس الشرقية، الذي أوصى بضرورة استمرار الدومنيكان بإدارة المعهد المذكور، بالرغم من تعذّر الرهبنة الدومنيكية بقلّة كادرها. وفي عام 1973، تمّ إغلاق قسم الكبار للأسباب التي أتينا عليها قبلاً، ما استوجب على المشمولين بالخدمة العسكرية الالتحاق بها، إلاّ سواي، لحصولي على شهادة الثالث المتوسط في امتحان خارجي آنذاك، واختياري إكمال دراستي الرسمية ثمّ الجامعية.

 وفي عام 1974، وبسبب تفاقم الأمور والصعوبات العديدة التي رافقت الدراسة في المعهد، قررت الجهات المعنية في الفاتيكان، إغلاق ما كان تبقى من قسم الكبار وانتقالهم إلى المعهد الكهنوتي الكلداني في بغداد، فيما واصل قسم الصغار توارده على المدارس الرسمية، لغاية 1985 حيث انتهى كلّ شيء.

وهكذا تم إسدال الستار عن أروع حقبة قدّمَ فيها الآباء الدومنيكان من جهدهم وراحتهم وعلومهم ورسالتهم لكنيسة العراق، حيث ساهموا في تنشيط كنيسته في ميادين الدين والعلم والفضيلة على السواء. وقد كان لكنيسة العراق الشرف بارتقاء ما يربو من عشرين مطرانًا الدرجة الأسقفية، بضمنهم ثلاثة بطاركة كما أوردنا في أعلاه، وأساقفة متميزون مثل أدي شير،وفرنسيس داود، وأندراوس صنا، وأبلحد صنا، وحنا قلو، وحنا زورا، وحنا بولص، وجاك إسحق، وميخائيل الجميل، وحنا مرخو، وجرجس القس موسى،وميخائيل مقدسي، وربان القس، وبطرس هربولي، وبطرس موشي، ويوسف عبّا، ويوسف حبش، ويوسف توما، وعمانويلشليطا وغيرهم ربما لم تسعفني الذاكرة لإدراجهم، اضافة الى مئات الكهنة وآلاف الشمامسة ممّن انخرطوا في المجتمع وتسنّموا مناصب وبلغوا مراتب متميزة وأجادوا في الكتابة والترجمة والنقل وتربية أجيال.

ومن الآباء الدومنيكان الذين عاصرتُهم للفترة من 1967-1973، ممّن أقاموا في الموصل وبغداد وساهموا في التنشئة والتدريس في المعهد، وفي تنظيم الجماعة في كنيسة الساعة، وفي الإرشاد والأنشطة لدى الرهبانيات والكنائس المختلفة، أذكر الآباء: فريات، توما كوسماؤو، أمودري، خليل قوجحصارلي، فانسانت، مينو، جان فيليب (لاشيز)، يوسف أومي، جان ريشارد، كاميلو، جان ميريكو، دي بارل، وربما آخرون لا أتذكرهم.

كما لا أنسى ذكر الآباء الكهنة الذين ساهموا في التدريس في أروقة المعهد، وكانت لهم بصماتُهم في التنشئة وإعطاء مختلف العلوم والآداب، ومنهم: أبير أبونا مدرس اللغة الآرامية– السريانيةوالمؤرخ اللامع،وجبرائيل جرخي مدرّس اللغة العربية البارع، والخوري ألياس صقال مدرس الرياضيات، وميخائيل جميل (المطران)، وجرجس القس موسى (المطران)، ونعمان أوريدة، وبطرس موشي (المطران)، وغيرُهم من جنسيات مختلفة وأستاذة مدنيون تم انتدابُهم لإكمال الفراغ في المناهج.

وللمرحوم القس إسطيفان زكريا، القدح المعلّى في متابعة شؤون إدارة المعهد مخوَّلاً رسميًا لدى السلطات الحكومية. فقد استغرقت معاملة الاعتراف بالمعهد التي كان يتابعها بعناد العديد من السنوات، ولكن من دون جدوى، لحين إغلاقِه نهائيًا بسبب رفض الحكومة البعثية آنذاك الاعتراف به، عادّةً أنَّ الإرساليات التبشيرية خطرة على تنشئة الأجيال لتصادمها مع مناهج الدولة ومبادئِها القومية. هذا الإنسان "الطيار" من آل زكريا (اسطيفو)، الذي حملته والدتُه "طيارة" القره قوشية تسعة أشهر في بطنها، لتنذرَه كاهنًا متفانيًا لا منزلَ له سوى غرفتَه البسيطة في الطابق الأول من حوش معهد مار يوحنا الحبيب في قسم الصغار، لم يتوانى يومًا في نشاطه الدؤوب بمتابعة شؤون هذا المعهد. فقد كان تعوّد التنقل الدائم بين مدن العراق وقراه والعاصمة بغداد، ولا يُعرف له مستقَرّ. وهو الذي طلبَ يومًا من متحدثيه حلّ لغز إنسان اضطرَّ للبقاء في بطن "طيارة" تسعة أشهر من دون أن يُؤذن له بالهبوط منها، ولم يصدّقوا. فكان الجواب: هذا الإنسان هو اسطيفان زكريا. رحمه الله!

إذا كان الماضي قد نسينا والحاضر قد أتعبَنا، فنحن لن ننسى سنواتنا الجميلة في معهد مار يوحنا الحبيب، ما دامت فينا وفي أجيالِنا نسمةٌ ولسانٌ وإرادة وقدرات ورجاءٌ بمستقبل قد يكون مختلفًا، ولكن يمكن أن يعيد دورة الحياة إلى الطريق الصحيح، ولو بعد حين!

رحم الله مَن انتقل إلى الأخدار السماوية من رؤساء كنسيين ومدنيين، بطاركة وأساقفة وكهنة وتربويين وتلامذة، وحفظ مَن بقي منهم يطاردَ الشرّ ويسعى للخير والبناء، لمنفعة الكنيسة والوطن والمجتمع، اينما حلّ أو اغترب أو استقرّ. فحالُ الدنيا، هي هكذا. لن نعلم اليوم ولا الساعة ولا ما قد حدّده لنا القدَر أو حفظته لنا السماء.











أربيل - عنكاوا

  • موقع القناة:
    www.ishtartv.com
  • البريد الألكتروني: web@ishtartv.com
  • لارسال مقالاتكم و ارائكم: article@ishtartv.com
  • لعرض صوركم: photo@ishtartv.com
  • هاتف الموقع: 009647516234401
  • رقم الموقع: 07517864154
  • رقم إدارة القناة: 07504155979
  • البريد الألكتروني للإدارة:
    info@ishtartv.com
  • البريد الألكتروني الخاص بالموقع:
    article@ishtartv.com
جميع الحقوق محفوظة لقناة عشتار الفضائية © 2007 - 2024
Developed by: Bilind Hirori
تم إنشاء هذه الصفحة في 0.6237 ثانية