الحلقة الثالثة
السلوك الاستبدادي والمشين إزاء المبادئ والقيم الإنسانية الحضارية
من يتتبع تاريخ الثورات بالعالم سيجد، إنها حصلت ليس بناء على رغبات ذاتية بل لضرورات موضوعية أولاً، وغالباً ما اقترنت بمسألتين مهمتين هما: الفرحة العارمة التي تصيب الغالبية العظمى من المجتمع بأمل التغيير والتجديد والتخلص من حكومات عرضتها للكثير من الحيف والظلم مثلاً من جهة، وارتكاب تجاوزات وخروقات لا يمكن في الغالب الأعم تجاوز بعضها على الأقل من جهة أخرى، ثانياً. وغالباً ما تقع مثل هذه التجاوزات ضد عناصر وقوى من النظم السابقة لأسباب ترتبط بمستوى الحقد والكراهية الذي يجتاح الناس بعد سقوط الفئات الحاكمة السابقة والرغبة الجامحة والسلبية التي تنتاب الناس بسبب سياسات تلك العناصر أو القوى التي حكمت وأساءت للمواطنات والمواطنين وأتباع القوميات أو أتباع الديانات والمذاهب أو الاتجاهات الفكرية الأخرى أو غالبية المجتمع. ويمكن أن نتابع هذه الحالة منذ قيام الثورة الفرنسية في 14 تموز/يوليو 1790 حتى الوقت الحاضر. وهذا ما حصل بالعراق أيضاً حين نجح الضباط الأحرار بالتحالف مع جبهة الاتحاد الوطني، في إسقاط النظام الملكي وإقامة النظام الجمهوري في انتفاضة الضباط الأحرار، ومن ثم ثورة 14 تموز/يوليو 1958.
لقد اقترنت الفرحة العارمة لغالبية الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه وأغلب اتجاهاته الفكرية والسياسية من جهة، وبغضب عارم ضد عناصر وقوى حاكمة في العهد الملكي من جهة أخرى. وقد حصل كل ذلك في الساعات الأولى لانطلاق الانتفاضة العسكرية مباشرة وعبر فوضى عارمة شملت شوارع بغداد، والمدن الأخرى. ولكن ما حدث ببغداد لم يحدث بالمدن العراقية الأخرى. وفي الوقت الذي حققت الثورة الكثير من المنجزات الوطنية والديمقراطية في الفترة الأولى من عمر الثورة، اقترن ذلك بممارسات وتجاوزات فظة على الإنسان وكرامته، ومن ثم حصول انتكاسة فعلية في مسيرة ونهج الثورة ثانياً. فقد اُرتكبت الكثر من المعاصي والتجاوزات الفظة على الفرد، حيث قتل وسحل بالأرض بعض كبار المسؤولين من الحكم السابق، كما حصل مع الوصي على العرش عبد الإله بن علي، ورئيس الوزراء نوري السعيد وابنه صباح نوري السعيد. ثم شكل رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم "محكمة الثورة" التي بدأت بمحاكمة رجال العهد السابق، والتي كانت سابقة في هذا المجال. إذ لم يكن ضرورياً تشكيل محكمة عسكرية، بل كانت القوانين العراقية كافية لذلك، ثم تميز مجرى عمل هذه المحكمة بضعف الالتزام بالقوانين والتقاليد المرعية في المحاكمات الدستورية وبسلوك غير قانوني، إذ غاب عن جلسات المحاكمات احترام كرامة الإنسان المتهم وحقه الكامل في الدفاع الحر عن نفسه وعبر محاميه ودون أي ضغط أو تعذيب يتعرض له اثناء التحقيق، وأياً كانت الجرائم التي يمكن أن يكون قد ارتكبها المتهم، إذ أنه يبقى بريئاً حتى تثبت إدانته. وما حصل كان معيباً من تلك العناصر والقوى التي مارست التعذيب أثناء التحقيق.
كانت المنجزات التي تحققت في صالح الناس وباتجاه إعادة بعض الحقوق التي غيبت عن الإنسان العراقي للممارسة الفعلية وفي المجالات السياسية واقتصادية والاجتماعية والثقافية وكذلك بعض حقوق المرأة المغدورة. ولكن الثورة لم تستمر طويلاً باتجاه الحياة الدستورية، المدنية والديمقراطية، إذ انتكست لعامل مهمة، نشير إلى أبرزها في الآتي والتي تندرج ضمن التجاوز على حقوق الإنسان والشرعية الديمقراطية:
إن عوامل انتكاسة الثورة حرثت الأرضية الصالحة للانقلاب العسكري على الثورة وحكومتها في الثامن من شباط 1958 والذي تميز بالعنف والشراسة البربرية، إذ مورس عنف فاشي وقتل هادف ومنظم وعشوائي في آن واحد. لقد فرض انقلاب 8 شباط/فبراير تعطيلاً كاملاً لدولة القانون ومصادرة كاملة لحقوق الإنسان وسيادة شريعة الغاب لثمانية شهور حتى سقوط هذه الانقلاب بانقلاب عسكري أخر في الربع الأخير من العام ذاته.
ولهذا فقد تميزت هذه الفترة والفترة اللاحقة بغياب أي التزام فعلي أو حتى نسبي بحقوق الإنسان وبالقيم والمعايير الإنسانية والحضارية. فقد شهدت هذه الفترة امتلاء السجون بالمعتقلين والسجناء السياسيين وممارسة أبشع أشكال التعذيب الهمجي الذي غالباً ما يموت الإنسان تحت وطأته. وأبرز أربع مسائل في هذا الصدد نشير إليها فيما يلي:
"إلى الشعب العراقي الكريم
نظراً لقيام الشيوعيين العملاء شركاء عبد الكريم قاسم في جرائمه بمحاولات يائسة لأحداث البلبلة بين صفوف الشعب وعدم الانصياع إلى الأوامر والتعليمات الرسمية فعليه يخول آمرو القطعات العسكرية وقوات الشرطة والحرس القومي بإبادة كل من يتصدى للإخلال بالأمن وإننا ندعو جميع أبناء الشعب المخلصين بالتعاون مع السلطة الوطنية بالإخبار عن هؤلاء المجرمين والقضاء عليهم" (راجع: نوري عبد الحميد العاني وصحبه، تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري، الجزء السادس، ط 1، بغداد، المطبعة العربية، 2002، ص 27). وقد اعطى هذا البيان الحق المطلق للحرس القومي والأجهزة الأمنية والقوات المسلحة وأعضاء حزب البعث بقتل الشيوعيين والديمقراطيين وأنصار عبد الكريم قاسم حيثما وأينما وجدوا بتهمة مقاومة الانقلاب.
لقد سقطت خلال حكم البعث والقوميين العراقيين العرب كل الحقوق والقيم الإنسانية خلال الفترة بين شباط 1963 ونوفمبر من العام ذاته، كما لم يستطع الشعب استرداد حريته وحياته الديمقراطية في ظل الحكم القومي، رغم حصول بعض التخفيف من غلواء البعث في إرهاب الشعب وقتل الخصوم والمعارضين.
إسقاط الحكم القومي وقيام الحكم البعثي ثانية
بين 17 تموز/يوليو 1968 نفذ البعثيون وحلفاؤهم من القوميين المشاركين في الحكم انقلاباً في القصر الجمهوري وأزيح عبد الرحمن عارف من رئاسة الجمهورية واعتقل بقية الجماعة الحاكمة ومؤيديها. وبعد مرور أسبوعين على هذا الانقلاب، نفذ البعثيون انقلاباً على حلفائهم القوميين في الثلاثين من تموز/يوليو من العام نفسه. وقد مارس البعثيون حملة إرهابية شرسة ضد القوميين العرب العراقيين فاعتقلوا المئات منهم ولاسيما الذين كانوا في السلطة أو في قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي والكثير من المسؤولين العسكريين والمدنيين وأذاقوهم مرّ العذاب في السجون والمعتقلات والتي يصعب تصورها، إلا فيما مورس في العام 1963 في قصر النهاية ذاته ضد الشيوعيين والديمقراطيين، فيما عدا أنهم لم يقتلوهم تحت التعذيب، ولكن أسقطوا كل ما يمكن أن يمت للكرامة الإنسانية من صلة. كما اعتقلوا الكثير من أعضا حزب البعث (اليسار) من مؤيدي القادة القومية البعثية السورية، ومارس ذات الأساليب معهم في التعذيب.
وعلى امتداد حكم البعث، ورغم التحالف مع حزب البعث من جانب الحزب الشيوعي العراقي، لم يكف حزب البعث عن تصفية خصومه ومعارضيه بسبل شتى، ثم انتقل ليصب جام غضبه الكرد والشيوعيين. وحين صفى عملياً من الساحة السياسية جل خصومه من كل القوى والأحزاب السياسية، بمن فيهم الجماعات الدينية التي تحالفت معه في انقلاب 1963 وأعطته المؤسسة الدينية الشيعية قبل الانقلاب، وعلى رأسهم الرجعي الديني الشيعي "محسن الحكيم"، فتوى يحق بموجبها إهدار دم الشيوعيين باعتبارهم ملحدين والتي جاء فيها: "لا يجوز الانتماء للحزب الشيوعي فأن ذلك كفر وإلحاد"، كما أعطى فتوى مماثلة في المضمون الشيخ نجم الدين الواعظ من شيوخ المذهب السني، وكذلك الشيخ محمد مهدي الخالصي من شيوخ المذهب الشيعي. وقد أُبطلت هذه الفتاوى فيما بعد، بسبب جموحها اللاإنساني وسماحها بهدر دماء الآلاف من أبناء ونات العراق. (راجع: رشيد الخيون، قصة تعطيل فتاوى كادت تهدر دماء آلاف الخُصَماء السياسيين، الشيخ العلواني في كتابه «إشكالية الردة والمرتدين»: الإسلام دين تزكية وتطهير لا دين تكفير، موقع أيلاف، العدد 9613 في 24أذار/مارس 2005).
لقد فرض حزب البعث نظاماً استبدادياً باسم الحزب أولاً، وبشكل فردي مطلق لاحقاً، ونظاماً شوفينياً مناهضاً للقوميات الأخرى، ومطارداً لكل الاتجاهات الفلسفية والفكرية الأخرى، ثم صادر عبر أجهزة أمنه ومنظماته الجماهيرية وحزبه والقوات العسكرية أمن وحرية وحقوق المواطنات والمواطنين بشكل كامل، ولاسيما من تبقى منهم بالعراق من معارضين لسياسات البعث الدموية. وأخيرا وبعد أن صفا الجو السياسي له بدأ بسياساته التوسعية والعسكرية بحربه ضد إيران التي دامت ثمانية أعوام عجاف ومجنونة، ثم غزا الدكتاتور صدام حسين الكويت، وتسبب في حرب الخليج الثانية 1991 والثالثة 2003، التي أنهت وجود هذا النظام بالعراق. كما بدأ بشكل مبكر في عملية قهر وتصفية حركة التحرر الكردية وشن حروباً ظالمة ضد الشعب الكردي في أعوام 1969 و1974 و1981 التي تواصلت طيلة سنوات الحرب العراقية الإيرانية وتفاقمت حين نفذ النظام عمليات الإبادة الجماعية واستخدام الكيماوي ضد الشعب الكردي بين شباط/فبراير- تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1988. كما نفذ النظام عملياته العسكرية الدموية في وسط وجنوب العراق وإقليم كردستان العراق بعد انكساره في حرب الخليج الثانية في العام 1991.
لقد داس النظام بقيادة صدام حسين على لائحة حقوق الإنسان وحقوق المواطنة كافة ومرغ كرامتهم بالتراب، وداس الدكتاتور على كل القيم والمعايير الإنسانية والحضارية بأقدامه. وتحول العراق إلى سجن كبير يضم سجوناً ومعتقلات علنية وسرية كثيرة جداً وضع فيها عشرات الألاف من السجناء والمعتقلين من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية، وقتل فيها أيضاً المئات من المعتقلين الرافضين لنظامه الدموي. وتعرض الشعب في فترة حكمه إلى الحصار الاقتصادي الدولي الظالم الذي مارسته الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي على الشعب العراقي عملياً وليس ضد الفئة الحاكمة. وقد دام هذا الحصار قرابة 13 عاماً تعرض فيها الشعب لأبشع عملية تجويع وإهانة وإساءة للكرامة طويلة الأمد، فقد فيها عشرات الألوف من الناس حياتهم بسبب الجوع أو نقص الأدوية أو غياب العناية الصحية، وهي كلها مصادرة لحق الإنسان في الحياة والحصول على الغذاء والأدوية المعالجة الطبية.
لقد مارس سياسة مصادرة تامة وكاملة لحرية التنظيم الحزبي وإقامة منظمات مجتمع مدني غير بعثية وصادر حرية الصحافة والصحفيين بالكامل، ولم يبق من الصحفيين في الساحة الفعلية العلنية إلّا العناصر المطبّلة لحزب البعث والمسبحة بحمد الدكتاتور، أو تلك التي استخدمت لغة "كليلة ودمنة" في نقد الوضع ولم تسلم أيضاً من سيف الجلاد. لقد كف الآباء الحديث بالسياسة أمام الأبناء والبنات خشية وصول الخبر إلى السلطات ويتعرضون للموت المحقق. لقد سادت أجواء مظلمة حيث وجد عشرات الألوف من العيون والمخبرين السريين والجواسيس العاملين في أجهزة الأمن والاستخبارات والمخابرات العراقية في كل مكان وأصبح الخوف عاماً وشاملاً، حيث يمكن أن يتعرض المواطن على انتقام النظام بسبب انتقاد معارضيه أو غير الموالين له، حتى انتشر قول صدام حسين: "كل العراقيين بعثيون وإن لم ينتموا"، كما انتشر قول بأن الإنسان العراقي لا ينجو من غضب النظام حتى لو حلم بمعارضة النظام! لقد شكل صدام حسين عدة أجهزة أمنية على المستوى الداخلي يراقب بعضها الآخر وخيوطها كلها بيد صدام حسين. لقد اقام صدام حسين نظاماً دكتاتورياً أوتوقراطياً مريعاً، دام ما يقرب من 35 عاماً ولاسيما الفترة الواقعة بين 1979-2003.
لقد جسدت فترتا حكم البعث الأولى 1963 والثانية 1968-2003 الدكتاتورية والشوفينية والعنصرية والتعريب والتهجير القسريين من جهة، والظلم والاضطهاد ومصادرة كاملة لكل الحقوق من جهة أخرى، وسيادة الفساد وهدر أموال البلاد من جهة ثالثة، والعسكرة والتوسع على حساب الدول المجاور وخوض الحروب الداخلية والخارجية من جهة رابعة، وإسقاط الجنسية عن أكثر من 400000 إنسان كردي فيلي وعربي شيعي من الوسط والجنوب من جهة خامسة، وعرض معارضيه من أهل السنة في القوات المسلحة والمدنيين الضيم والجور والتعذيب من جهة سادسة، وسادت البطالة والحرمان والجوع بين نسبة عالية جداً من سكان العراق أيضاً. إنها فترات حكم ضال ودموي مرير، إذ لم سعد للإنسان العراقي أي قيمة وكرامة إنسانية وحقوق.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الحزب الشيوعي العراقي، الذي تعرض إلى أبشع صنوف الإرهاب والتعذيب والقتل على ايدي الحكم البعثي وأجهزته الأمنية والحزبية والجماهيرية في العام 1963 وفي بدية مجيء البعث إلى السلطة ثانية في العام 1968 و1870/1971، كان المفروض أن لا يتحالف مع هذا الحزب في العام 1973 رغم التغيير الذي برز في سياساته حينذاك والتي لم تكن أصيلة ومبدئية، بل استمر حزب البعث بمطاردة بقية القوى السياسية في فترة التحالف، ومن ثم ضد أعضاء وكوادر وقيادات الحزب الشيوعي العراقي، وبالتالي فأن الحزب الشيوعي لم يحترم حقوق الإنسان والقيم الإنسانية الحضارية في تحالفه مع حزب البعث، رغم تقديمه احتجاجات أو مذكرات انتقاد واعتراض إلى قيادة حزب البعث ومجلس قيادة الثورة على تلك السياسات اللاإنسانية والمنافية لمبادئ حقوق الإنسان. وفي الفترة الواقعة بين 1977-1981 على نحو خاص تعرض الحزب الشيوعي إلى حملة هستيرية من جانب النظام البعثي حيث اعتقل عشرات ألوف الشيوعيين وأصدقاء الحزب ومؤيدوه وقتل الكثير منهم تحت التعذيب، كما أجبر الألوف على مغادرة العراق أو تشكيل حركة الأنصار الشيوعيين والالتحاق بها في جبال وأرياف كردستان الالتحاق والمشاركة مع بقية قوات الپيشمرگة الكردستانية في النضال ضد الدكتاتورية الغاشمة ببغداد.
انتهت الحلقة الثالثة وتليها الحلقة الرابعة والأخيرة.