في قلب الإيمان المسيحي، لا تقتصر العبادة على الطقوس والشعائر الدينية فحسب، بل تمتد لتشمل خدمة الإنسان، وخاصة الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع. يقدم الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، رؤية واضحة ومُلحة حول أهمية خدمة المرضى والمحتاجين، لا كعمل خيري فحسب، بل كوصية إلهية ومسؤولية تقع على عاتق كل مؤمن. إنها دعوة للتحرك من الإيمان النظري إلى العمل التطوعي الملموس، جسرًا يربط المحبة الإلهية بالمحبة البشرية.
الأساس الكتابي: المحبة والرحمة جوهر الخدمة
تتخلل تعاليم الكتاب المقدس العديد من الآيات التي تؤكد على قيمة الرحمة والتعاطف مع المتألمين:
- في العهد القديم: تتجلى الدعوة إلى رعاية المحتاجين كجزء لا يتجزأ من شريعة الله. تُحث الشريعة على حماية الأرملة واليتيم والفقير والغريب (التثنية 24: 19-22). الأنبياء، مثل إشعيا، يدعون إلى العدالة الاجتماعية ورفع الظلم عن المقهورين: "قضوا لليتيم، خاصموا عن الأرملة" (إشعيا 1: 17). كما أن الاهتمام بالمرضى كان جزءًا من ممارسات الرعاية المجتمعية.
- في العهد الجديد: يصل هذا المفهوم إلى ذروته في تعاليم يسوع المسيح. لم تكن خدمته مقتصرة على التعليم الروحي، بل كانت مصحوبة بأعمال شفاء ورعاية للمرضى وإطعام للجياع. تُعد قصة السامري الصالح (لوقا 10: 25-37) نموذجًا حيًا للمحبة العملية التي تتجاوز الحواجز الاجتماعية والدينية لتقدم المساعدة للمتألم.
ولعل أوضح مثال على ربط الإيمان بالخدمة العملية نجده في كلمات يسوع الشهيرة في متى 25: 35-40، حيث يقول: "كنت جائعًا فأطعمتموني، وعطشانًا فسقيتموني، وغريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني، ومريضًا فزرتموني، ومحبوسًا فأتيتم إليّ." وعندما سأله التلاميذ "متى رأيناك هكذا؟"، أجاب: "الحق أقول لكم: بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي قد فعلتم." هذه الآيات تجعل من خدمة المحتاجين خدمة للمسيح نفسه، مما يرفع من قيمتها ويجعلها جزءًا لا يتجزأ من العلاقة مع الله.
- في رسائل الرسل: يواصل الرسل تأكيد هذا المبدأ. يعقوب الرسول يقول في رسالته: "الدين الطاهر النقي عند الله الآب هو هذا: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" (يعقوب 1: 27). ويشدد بولس الرسول على أهمية المحبة العملية: "لا تكن محبتكم رياءً... كونوا متقدمين في الكرامة بعضكم بعضًا" (رومية 12: 9-10).
لماذا التطوع في خدمة المرضى والمحتاجين؟
من منظور الكتاب المقدس، لا تُعد خدمة المرضى والمحتاجين خيارًا إضافيًا، بل هي دعوة جوهرية للإيمان العملي:
- استجابة للمحبة الإلهية: عندما نخدم المحتاجين، فإننا نترجم المحبة التي تلقيناها من الله إلى أفعال ملموسة. إنها طريقة لرد الجميل وتقديم العطاء بلا حدود.
- التعبير عن الإيمان: الإيمان الحقيقي ليس مجرد اعتقاد فكري، بل هو قوة دافعة نحو العمل الصالح. "الإيمان بدون أعمال ميت" (يعقوب 2: 26). خدمة المحتاجين هي دليل على الإيمان الحي.
- التعاطف والتضامن: التطوع في خدمة المرضى والمحتاجين يفتح عيوننا على معاناة الآخرين، ويُنمي فينا مشاعر التعاطف والتضامن، مما يُعزز الروابط الإنسانية في المجتمع.
- بناء ملكوت الله على الأرض: عندما نعمل على تخفيف الألم، توفير الراحة، وتلبية احتياجات الفئات الضعيفة، فإننا نساهم في إظهار قيم ملكوت الله من عدل ومحبة وسلام على الأرض.
- النمو الروحي والشخصي: التطوع يجلب معه مكافآت روحية وشخصية عظيمة. إنه يعلمنا الصبر، العطاء، التواضع، ويزيد من إحساسنا بالامتنان لما لدينا. رؤية الفرح في عيون من تخدمهم هو مكافأة تفوق أي مقابل مادي.
- مثال حي للمسيح: كأتباع للمسيح، نحن مدعوون لاتباع مثاله في المحبة والعطاء. خدمته الشاملة للبشر، جسديًا وروحيًا، هي نموذج لنا في كيفية التعامل مع العالم المحيط بنا.
كيف نكون متطوعين فعالين؟
لتحويل هذه الوصايا إلى واقع ملموس، يمكننا أن نكون متطوعين فعالين باتباع الخطوات التالية:
- تحديد الحاجة: ابدأ بالبحث عن الاحتياجات الملحة في مجتمعك المحلي. هل هناك مستشفيات بحاجة إلى متطوعين لمساعدة المرضى؟ هل توجد جمعيات خيرية تُعنى بالفقراء، أو مراكز لرعاية المسنين، أو منظمات تُقدم المساعدة للأشخاص ذوي الإعاقة؟
- تقديم الوقت والمهارات: التطوع لا يتطلب دائمًا تقديم المال. يمكن تقديم الوقت، المهارات، والخبرات. فزيارة مريض، قراءة كتاب لمسن، المساعدة في تحضير وجبات للمحتاجين، أو تقديم الدعم النفسي، كلها أشكال قيمة من التطوع.
- التعاون مع المنظمات: الانضمام إلى منظمات خيرية ومجتمعية راسخة يمكن أن يوجه جهودك نحو الأماكن التي تحتاج للمساعدة أكثر، ويوفر لك التدريب اللازم والبيئة المنظمة.
- التدريب والتأهيل: في بعض حالات خدمة المرضى أو الفئات الخاصة، قد يكون الحصول على تدريب بسيط في الإسعافات الأولية، أو الدعم النفسي، أو كيفية التعامل مع حالات معينة مفيدًا جدًا.
- المحبة والتعاطف كأساس: الأهم من أي مهارة هو القلب المفعم بالمحبة والتعاطف. فالمحتاجون والمرضى لا يحتاجون فقط إلى مساعدة مادية، بل إلى كلمة طيبة، لمسة حانية، وشعور بأن هناك من يهتم لأمرهم.
- الصلاة من أجلهم: إلى جانب العمل المادي، لا يقل الدعاء والصلاة من أجل المرضى والمحتاجين أهمية، فهو يرفعهم إلى عناية الله وطلب البركة والشفاء لهم.
خاتمة
إن دعوة الكتاب المقدس لخدمة المرضى والمحتاجين هي دعوة أبدية تتجاوز الزمان والمكان. إنها ليست مجرد تعليمات، بل هي قلب الإيمان الذي يدعونا إلى أن نكون أيادي الله في هذا العالم، وأن نجسد محبته ورحمته من خلال أفعالنا. فبالتطوع في خدمة هؤلاء، نُثري حياتنا، ونُعطي معنى لوجودنا، ونُساهم في بناء مجتمع أكثر إنسانية، حيث يُعامل كل فرد بكرامة ومحبة، كما أراد الله. إنها رحلة عطاء لا تنتهي، ومكافأتها تكمن في الفرح الذي نزرعه في قلوب الآخرين، وفي القرب الذي نشعر به من خالقنا.