كتابٌ حديثٌ تأليف سيادة المطران سليم الصائغ
يَجتاحني سُرورٌ كبير، لأنَّ مَدَدَ قلمِ سيادة المطران د. سليم الصائغ وَمِن حُسنِ توفيق الله ونِعمتهِ، قد بقيَ وفيراً كما عَهدناه عَبر السنوات في عشراتِ المؤلَّفات الصادرة القيِّمَة. وها هو ذا الآنَ، يُسطِّر كِتاباً حديثاً لم يُنَسَّقْ على مُستواه مِن قبل، ويتبدَّى هذا من عنوانه "العائلة المقدسة في زمانها والعائلة المسيحية في زماننا".
لقد بدأت رحلتي مع الكتاب قبل أيامٍ بعدَ ان شرفني بنسخة منه. وكانَ حفظه الله قد أسَرَّ لي بأنَّه يعملُ على كتابٍ هو ثمرة أحلامٍ وأفكار تبرعمت عبر السنوات الماضية. والكتاب مُقاربة لِفَهْمٍ أعمق وأشمل على ما كانت عليه سِيرة حياة العائلة المقدسة في الناصرة، ومسيرتها الروحية والزمنية المُشبَّعة بالفضائل والإشراقات، وعلى واقعِ حالِ العائلة المسيحية في وقتنا الحاضر "في ظلِّ المتغيرات السريعة التي حَدَثت والتحوُّل الشامل في أصعدةٍ مختلفة من جرَّاء الحياة العصرية وتأثيرات ذلك على مفاهيم الأفراد والجماعات وثقافتهم، والانعكاس الملحوظ على طريقة التفكير والأحكام والسلوكيات بما في ذلك الرَّغبات الفردية والجماعية، مَا أدَّى لظهور أزماتٍ وتحدياتٍ لم يعهدها التاريخ البشري مِن قَبل".
ينطلق المؤلِّف في مقدمة الكتاب مِن الانجيل المقدس حيث يدعو، بل ويُشدّد على قراءته " قراءَة مُعمقة وبتامُّلٍ وإصغاءٍ كي يُسْمَعَ صوت الرَّب الذي يتكلم مِن خلاله فينير القارئ ويكون له غذاءً روحياً ". وعلى ضَوء هذا، نجد القسم الأول من الكتاب والمُعنون "العائلة المقدسة في زمانها" يُركِّز على تأمُّل ما جاء في الإنجيل المقدس عن العائلة المقدسة في بيت الناصرة. البيت الذي استظلت بِفَيْئِه الحافِل بالروح القُدس، العذراء مريم البتول الممتلئة نعمةً، وخطِّيبها المُزَيَّن بالفضائل البار البتول يوسف، ويسوع المسيح. كما يُبيِّن الواقع الإيماني والروحي والإنساني للعائلة المقدسة " التي وضع الله يده عليها لتعيش سِرّها ودعوتها واختياره لها لمخططه الخلاصي، في إطار دُنيويٍ بَشري مثل سائر العائلات المُتديِّنة المٌلتزمة بما تلتزم به العائلة المُتقية الرب؛ مِن ثبات على محبته، والتزام بوصاياه، ومثابرة على الصلاة والتأمل بكلمة الله لمعرفة إرادته فيها ".
ومع ما دُوِّن في أسفار الكتاب المقدس، وما تراءى للمؤلِّف بعدَ بَحثِ وتَفكُّرٍ، فإنَّ حياة العائلة المقدسة في الناصرة كانت حياةً عاديةً بسيطة بتفاصيلها الطبيعية، وما كان يترتب عليها من التزامات معيشية واجتماعية وعلى النحو الذي كانت تعيشه العائلات آنذاك. حيث اختبر يسوع كلمة الله المُتجسِّد مراحل حياة الانسان -ما خلا الخطيئة - فعاشَ وصَلَّى "وتأمَّل كلمة الله، وتعلَّم كيف يعيشها ويعمل بموجبها بكل حُبٍ وثقةٍ بالله الآب". كما تعلَّم الحكمة والتواضع والخدمة ومشاركة الآخرين مسرَّاتهم أو" الشفقة عليهم في معاناتهم وأتراحهم". كما تعلَّم العمل اليدوي في منجرة رَبِّ عائلته المُقدسة مار يوسف البار" الذي حافظ على هذه الأمانة التي أودعها الرب عنده لِمُخطَّط الفداء والخلاص ". وتجد في القسم الأول من الكتاب كما في أقسامه الأخرى، أسئلة كثيرة طرحها المؤلِّف كونها قد تترددُ على ألسِنَة القراء وأجاب عليها بِغَرض إحاطة أشمل وأكمل للموضوعات الواردة.
وتمضي في الكتاب، فإذا أنت امام قِسمه الثاني المُعنون "العائلة المسيحية في زماننا" الذي اسْتُهِلَّ بعنوان "الزواج المقدس في تعليم الكنيسة الكاثوليكية". ثم تَلت عناوين لموضوعات أخرى مِنها موضوعٌ أسماهُ "جراح العائلة البليغة في عصرنا". تناول فيه بشرحٍ مُوسعٍ: "الحُبُّ المُزيف، الفتور واللامبالاة بالأمور الدينية، الجسد مقدس؛ ولكن!، الإلحاد المُعاصر..، العائلة المسيحية في نظام الأحوال الشخصية وفي المجتمع المدني". يقولُ المؤلِّف في هذا الجزء من الكتاب:" يستهدفُ الشيطان عدو الانسان والخير، تفكيك العائلة في العالم كله والقضاء على أخلاقها النبيلة وكرامتها وجعلها خاضعة تماماً لأهواء الانسان". ويُضيف: " يُكثف الشيطان هجومه على العائلة المسيحية ليبعدها عن الخلاص الأبدي، ولا يريدها متحدة بالحُب والأخلاق وقداسة السيرة ". ويقول أيضاً: "مِن خلال المتنكرين لإيمانهم بالله، يريد الشيطان للبَشَر بأجمعهم أن يستسلموا لأنانيتهم وحُبّ أهوائهم المزيف فيعيشوا في هذه الحياة غير مكترثين لتعليم الكنيسة ". وحول غياب الفرح الحقيقي من حياة الكثيرين يقول: "مِن المُحزن ألا يكون مكان لله في حياة الكثيرين من البَشر، مهما كان انتماؤهم الديني الرسمي إذ لا يعبأون بما يُملي عليهم الدِّين من واجب التمييز بين الخير والشر، واختيار الخير واجتناب الشر، فيعيشون في فسادٍ الأخلاق ولا يكترثون إلا بما يحلو لهم. ولذلك انتفى الفرح الحقيقي من حياة الكثيرين أفراداً ومجتمعات وشعوباً".
وعقدَ المؤلف فصلاً مُوسَّعاً عنوانه "التربية المسيحية" تفرَّع منه نحو ثلاثين عنواناً، جاءَ ضِمن أحَدِها: "نظراً للتغيرات التي حدثت في بنية بلادنا الاجتماعية مِن جراء الحياة العصرية وتأثير ذلك على الشباب وعلى العائلات في جوانبَ منها سلبية، فمن الضروري إعادة نظرٍ جذريةٍ في طُرق التربية الإنسانية والدينية ليستفيد منها أبناء عالم اليوم الذي يختلف عن العالم الذي عهده أجدادهم فالمجتمع متطور ومتجدد فيه الغث والسمين فيه الخير والشر". "ثمَّ تلاه فصلٌ بعنوان "العائلة المقدسة؛ نموذج الفضائل البيتية المسيحية". وجاء ضمن بعض العناوين: "العائلة هي في قلب الكنيسة الكاثوليكية ومركز اهتمامها ويحملُ كاهن الرعية اليها رسالة المسيح الراعي الصالح، رسالة المحبة والتوبة والرحمة لخلاص النفوس". ومما جاء في السِّياق: " إنَّ العائلات التي تلتزم بالإيمان والحياة المسيحية تشكل قدوة صالحة لغيرها من المؤمنين بالمسيح. وبِقُدوتها المسيحية وأخلاقها وامانتها للمسيح تُشكِّل علامة رجاءٍ للعالم". وجاءَ أيضاً" تُدرك العائلات المسيحية حاجتها إلى الراعي الصالح كي يوجهها روحياً وإيمانياً فتتمكن من القيام بمسؤولياتها البيتية والراعوية". ويُشيدُ المؤلِّف بالعائلات "التي تحافظ على القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية وتسهر على تربية أبنائها تربية مسيحية إنسانية أصيلة، فهذه العائلات لا تنجرف لنزوات العَالم وتقلبات العصر وما يمس كرامة الجسد باعتباره "هيكل الله وروح الله يسكن فيه". كما قال القديس بولس الرسول.
ويؤكِّد المؤلِّف في كتابه هذا على أن يكون نهجنا ومسيرتنا في الحياة بغاية الدخول "إلى باب الملكوت؛ الباب الضَّيق" كما قال السيد المسيح ويُضيف موضحاً:" إنَّه ضيقٌ على طبيعة الانسان الفاسدة ويتطلب هذا مقاومة التجارب والنزوات والشر والشرير، والتجاوب مع النعمة، والالتزام بالوصايا والمحبة وممارسة الفضائل المسيحية". أما "الباب الرَّحب، الطريق المؤدي إلى الهلاك فالذي يسلكونه كثيرون" وهو باب التمرد على الله ووصاياه حيث يؤلِّه الانسان جَسده وشهواته ورذائله ونزواته".
بقيَ ان أقول، إنَّ هذا المُنْجَز القَيِّم الذي يتعذر الإحاطة بموضوعاته الكثيرة المُتشعِّبة الغنية في مقالٍ واحدٍ، كونه جاءَ في تسعٍ وسبعينَ وَمئَتَيّ صفحة وقد سَطَّرَه حُجَّةُ القانون الكنائسي سيادة المطران د. سليم الصائغ الذي أمضى نحو خمسةٍ وخمسينَ عاماً في القضاء الكنائسي ومحاكِمِه. وهو مُحصِّلة تَراكُم خِبرات تلك الأعوام التي واكبها متابعات وشؤون رعائية، وفيها تَبَصُّرٌ لِحالِ العائلات وما تواجه مِن تحدياتٍ ومستجداتٍ وعواصفَ عاتية. لذا ارتأى حفظه الله ضرورة اتباع نَهج العائلة المقدسة والتَّخلُّق بأخلاقها وفضائلها واستسقاء العِبَر والدروس منها؛ حتى إذا اقتدت عائلاتنا بها ظهر مَجد الله فيها، وبانت مواهب الروح القدس على أفرادها، وتدفقت النِّعَم السماوية لتُعزِّزَ كيانها وتُثَبِّتها على الإيمان والرجاء والمحبة إلى حين لقائها في السماء!
بقلم حنا ميخائيل سلامة نعمان