
عشتار تيفي كوم - سيريك برس/
أزال علماء الآثار، بحذر شديد، غبار آلاف السنين عن ألواح طينية غير محروقة وختمات تحمل نصوصاً مسمارية من عصر بابل القديم. ومع ذلك، بدأت هذه القطع، التي ظلت مدفونة في أعماق الأرض لما يقارب أربعة آلاف عام، تتلاشى بسرعة، إذ بدأ الطين الجاف يتفتت فور ملامسته للهواء.
يقع الموقع في سهول متدرجة بمنطقة إقليم كردستان العراق، على بعد نحو 20 كيلومتراً شمال غرب أربائيلو (أربيل). خلال موسمَي الحفر في عامَي 2024 و2025، كشف فريق بقيادة تيفاني إيرلي-سبادوني، عالمة آثار في جامعة فلوريدا، عن مجموعة من الألواح الطينية تعود إلى العصر البرونزي الأوسط، تشمل سجلات إدارية، وربما رسائل أو سجلات للممتلكات، نجت فقط بفضل الأرض التي احتضنتها. وقالت إيرلي-سبادوني: “نجاة هذه القطع تُعد معجزة بحد ذاتها. لكن بمجرد تعرضها للهواء، يبدأ الوقت بالنفاذ”
وللتعامل مع هذا الوضع الطارئ، فعّلت الجمعية الأمريكية للبحوث الخارجية (ASOR) منحة “شيبرد للعمل العاجل”، لتوفير الموارد اللازمة لإنقاذ القطع. وانضمت إلى الفريق كارمن غوتشاو، خبيرة ترميم آثار، لإدارة عمليات الترميم الحساسة.
بدأ الفريق بتنظيف كل قطعة بعناية باستخدام مشرط وفرش ناعمة وعدسات مكبرة. كانت بعض القطع بحجم راحة اليد، وأخرى مفككة إلى أجزاء صغيرة. واستخدم الفريق مواد لاصقة خاصة تناسب مناخ بيث نهرين (بلاد ما بين النهرين) الجاف لتثبيت الاسطح الهشة. كانت العملية دقيقة وتتطلب خبرة، فكل لمسة فرشاة أو قطرة من المادة اللاصقة يمكن أن تحدد مصير القطعة بين الحفظ أو الفقدان.
خلال أسابيع عدة، تم معالجة أكثر من 80 ختمًا والعديد من الألواح، وفي بعض الحالات كشف إعادة تركيب الشظايا عن نقوش كانت مخفية لقرون. قالت غوتشاو: “يشبه الأمر سماع صوت خافت يعود ليُسمع مرة أخرى”
تخضع القطع المُرمَّمة حالياً لدراسة يجريها بول دلنيرو، المتخصص في اللغات المسمارية، وماريان فيلدمان، مؤرخة الفنون في جامعة جونز هوبكنز، بهدف كشف ملامح الحياة السياسية والإدارية في مدينة قبرا، التي كانت يوماً ما تقع عند مفترق طرق حضارات بيث نهرين (بلاد ما بين النهرين).
لم يهدف المشروع إلى إنقاذ القطع الأثرية فقط، بل سعى أيضاً إلى تطوير خبرة محلية في حفظ الآثار. وبدعم من منظمة ASOR، نظم الفريق ورشة تدريبية لمدة يومين في المعهد العراقي لصيانة التراث والآثار، حيث قامت الباحثة غوتشاو بتدريب مختصين عراقيين على طرق التعامل مع المواد الطينية الهشة، وهي مهارات أصبحت ضرورية مع توسع أعمال التنقيب في المنطقة.
ومن المواقف اللافتة خلال المشروع، مشاركة فتاة صغيرة رافقت أحد والديها، وجربت بنفسها ترميم لوح تدريبي. تركت تجربتها انطباعاً عميقاً لدى الفريق، لأنها عبّرت عن هدف المشروع الحقيقي: الحفاظ على الترابط الانساني بين الماضي والحاضر.
يُعدّ مشروع قبره مثالاً نادراً على النجاح في مجال يواجه عادةً مشكلات الإهمال والتآكل. فالألواح الطينية غير المحروقة المكتشفة في العراق ما زالت مهددة بالتلف نتيجة العوامل البيئية والنهب. ويؤكد علماء الآثار أن جهود الحفاظ عليها أصبحت سباقاً مع عوامل الزمن وتقلّبات المناخ.
ساهمت تمويلات ASOR، إلى جانب دعم كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة سنترال فلوريدا والهيئة الوطنية للعلوم، في استمرار المشروع وحماية هذا الجزء من التاريخ. ومع ذلك، تقول تيفاني إيرلي-سبادوني إن التحدي الأكبر لا يزال قائماً: “علينا أن نحافظ على الماضي حيّاً ليبقى قادراً على إيصال صوته إلى الحاضر. فكل نقش على هذا الطين هو محاولة من إنسان قديم لفهم عالمه، ومهمتنا أن نحافظ على ذلك الفهم من الضياع.”