لقد أراد الله أن لا يكشف سر الخلاص البشري بجلاء إلا في الساعة التي يرسل فيها الروح القدس الذي وعد به المسيح. لذا نرى الرسل قبل يوم العنصرة "مثابرين بقلب واحد على الصلاة مع النساء ومريم أم يسوع ومع اخوته" أعمال الرسل 14:1 كما نرى العذراء مريم تطلب بصلواتها عطية الروح الذي كان حلَّ عليها يوم البشارة. فكان ذلك أن الله قد صانها من كل دنس الخطيئة الأصلية. بعد أن كملت مجرى حياتها الزمنية، صعدت بالنفس والجسد إلى مجد السماء. وعظّمها الرب كملكة العالمين حتى تكون اكثر تشابهاً بابنها رب الأرباب المنتصر على الخطيئة والموت.
في سنة 1950م أعلن قداسة البابا بيوس 12 في (الدستور الرسولي) عقيدة الايمان بانتقال مريم العذراء بالنفس والجسد إلى السماء. إذ ان عقيدة الحبل بلا دنس أعفت البتول مريم من الخطيئة المميتة الموروثة من الانسان الاول (ادم) لهذا الله لا يعاقبها بالموت طالما لم ترث الخطيئة الاولى. بل اصعدها إلى السماء بالنفس والجسد.
فالعذراء الطاهرة بعد ان عصمها الله من كل صلة بالخطيئة الاصلية، وطوت شوط حياتها الأرضية. نُقلت جسداً وروحاً إلى السماء، وأعلنها الرب سلطانة الكون لتكون بذلك أكثر ما يكون الشبه بإبنها رب الارباب وقاهر الخطيئة والموت، فانتقال البتول مريم اشتراك فريد في قيامة ابنها، واستباق لقيامة المسيحيين الآخرين.
عندما نسأل البتول مريم ان تصلي لأجلنا، نعترف باننا خطأة مساكين نتوجه إلى مراحمها كي نستودع ذواتنا بين يديها في ساعة موتنا لتكون حاضرة كما في موت ابنها على الصليب، ولتقبلنا مثل أمنا في ساعة عبورنا لتقودنا إلى يسوع في الفردوس.
في القرون الوسطى طورت تقوى الغرب صلاة الوردية، كبديل شعبي لصلاة الساعات. وفي الشرق، بقيت صيغة الصلاة الابتهالية المردَّدة في (الأكاثسوس و الباركليسي) أقرب إلى الفرض الجماعي، في الكنائس البيزنطية. أما التقاليد الأرمنية والقبطية والسريانية فقد فضلت الأناشيد والتراتيل الشعبية لوالدة الإله. ولكن في (السلام عليك يا مريم) والمقطوعات الخاصة بوالدة الإله (ثاوتوكيا) وأناشيد القديس أفرام، والقديس غريغوريوس النيركي، تقليد الصلاة هو هو في أساسه. لهذا فان مريم البتول هي المُصلية الكاملة رمز الكنيسة. فعندما نصلي إليها، نعتنق معها قصد الآب الذي يرسل ابنه ليخلص جميع البشر. وكالتلميذ الحبيب يوحنا نقبل عندنا ام يسوع التي صارت أم جميع الأحياء. فنستطيع أن نصلي معها وإليها. وصلاة الكنيسة كأنها محمولة بصلاة مريم، وهي تتحد بها في الرجاء. وفي حياتنا العامة نسمع بين مدة وأخرى أن مريم العذراء قد ظهرت لشخص، أو في مكان ما، أو في كنيسة ما، وفي مختلف بقاع العالم، فإذن دورها ما زال يعمل فينا في كل يوم لأنها تظهر لنا وكأنها مازالت حية تعيش بيننا. وهذه الصفة لم ينلها أحد إلا أبنها، ويثبت لنا هذا أن دور مريم العذراء في الخلاص يأتي بعد دور ابنها المخلص.
1- عيد انتقال مريم العذراء: يقع هذا العيد في 15/8 من كل سنة.
أن المراحل المتعلقة بحياة مريم العذراء لا يرد ذكرها في الاجيال الاولى من تاريخ الكنيسة، لكن انتقال مريم العذراء إلى السماء هو اعتقاد لاهوتي اثبتته الكنيسة استناداً إلى وديعة الوحي الإلهي. وأول من تكلم عن موت السيدة مريم وانتقالها إلى السماء هو ابيفانيوس فلسطيني الاصل وكان اسقف مدينة سلامين، قبرص سنة 403.
سنة 377 كتب ابيفانيوس رسالة إلى المسيحيين اثار فيها وفاة مريم العذراء. وكان مضمون الرسالة هو: "ان مريم العذراء لا نعلم انها توفيت ام لا؟ لان الكتاب المقدس لزم عنها الصمت لكن انا اقول لكم في هذه الرسالة ثلاثة نقاط هامة!؟".
1- لنقل انها ماتت موتاً طبيعياً، ففي هذه الحالة قد رقدت بالمجد وارتحلت طاهرة ممجدة ونالت اكليل طهارتها.
2- إذا كانت قد ضربت بالسيف أو قتلت، حسب نبوءة شمعون السيخ (انجيل لوقا 25:2) فهي ممجدة مع الشهداء والقديسين.
3- أن النور الإلهي كان يشرق بها ورمز البتول بجسدها الطاهر، وانها انتقلت من هذا العالم دون وفاة. علماً ان الله قادر ان يعمل ما يريد وما يفوق العقل البشري، وترك ابيفانيوس هذة المسألة غير واضحة.
سنة 431 لقيت البتول مريم اهتماماً جاداً من قبل مجمع افسس مقررين ان تدعى مريم بـ (ام الله) لكن الكنيسة البروتستانتية هاجمت الكنيسة الكاثوليكية طالبة اعادة النظر بالقرار وتقديم الاثباتات الكافية على انتقال مريم العذراء إلى السماء.
بدأ أباء الكنيسة الكاثوليكية البحث الجاد في جميع الكتب التي لها علاقة بالعذراء مريم، فوجدوا كتاباً سريانياً قديم يعود تاريخه إلى النصف الثاني من القرن الخامس. توجد فيه روايتين حول موضوع انتقال البتول إلى السماء.
الرواية الأولى:
ان الرسل احاطوا بقبر مريم العذراء ساهرين هناك لمدة ثلاثة ايام، والمسيح نزل من السماء مع الملاك ميخائيل وجلس بينهم وبعد ذلك اوعز المسيح إلى الملاك ميخائيل. فبدء الملاك يتكلم بصوت ملاك قادر. فنزلت ملائكة على ثلاث سحب وكان عدد الملائكة فوق كل سحابة يربو على الف ملاك وهم يرتلون، فقال الرب للملاك ميخائيل ليحملوا جسد البتول بالسحب وعندما حملت السحب جسد البتول قال الرب للرسل بأمكانكم ان تقتربوا من السحب. ومع اقترابهم من السحب كانوا يرتلون بصوت الملائكة، وأمر المسيح السحب ان تذهب إلى باب الفردوس، وعندما دخلوا الفردوس ذهب جسد البتول إلى شجرة الحياة، وجعلوها تدخل بجسدها واطلق الرب الملائكة إلى اماكنهم.
الرواية الثانية: تقول: بعد ان اجتمع الرسل الكرام بالهام الروح القدس. اخذوا جسد البتول مريم ووضعوه في مغارة جديدة لم يقبر فيها احد، والمغارة واقعة في وادي امام جبل الزيتون ووضعوا حجر كبير على باب المغارة، وبعد ان عاد الرسل كل منهم إلى البلدة التي قدم منها. تأمر اليهود شراً على ان يتفحصوا القبر وكان عددهم 300 شخصاً فدخلوا منهم المغارة وأزاحوا الحجر من الباب فرأوا المغارة يسطع نور منها ويفوح منها عطر والثياب مطوية وموضوعة على جانب القبر ولا يوجد جسد البتول فتعجب الجميع، وقال أحدهم: "بالحقيقة أن يسوع بن مريم هو المسيح مرتجى البرايا عرف بنيتنا الخبيثة تجاه جسد امه فنجاها من أيدينا وأرفعها إلى السماء وها نحن لنا الخزي والعار دوماً".
اجتماع الرسل:
مثلما اسلفنا ان الرسل الكرام قد اجتمعوا بالهام من الروح القدس إذ عند انتقال مريم العذراء كانوا متفرقين إلى اربع جهات الارض ليبشروا العالم كله بكلمة معلمهم الذي اوصاهم بان يبشروا الارض كلها. وكتب الاباء القديسين يسرد لنا بان الرسل الكرام وعلى لسان كل واحد منهم يقول لنا كيف اجتمعوا امام البتول مريم عند رحيلها من هذا العالم.
1- يوحنا الحبيب: وهو يوحنا صاحب الانجيل ورؤية. وهو الذي لقبه الرب بالحبيب، وهو الذي أوصاه الرب بـ "هذه أمُك" فأخذها التلميذ إلى بيته من تلك الساعة. كان يوحنا في افسس في ذلك اليوم، فأعلمه الروح القدس قائلاً له "ها قد دنا رحيل ام سيدك من هذا العالم، قم وإذهب عندها في بيت لحم، لأنها بشوق شديد لرؤيتك. ها أنا أخبر ايضاً رفاقك ليذهبوا ايضاً لديها، من البلدان التي هم فيها، وحتى المائتون في قبورهم سيقومون ويذهبون للسلام عليها قبل ان ترحل وتذهب إلى ابنها الحبيب" ولما سمع يوحنا، استغرب وتأسف جداً، وطلب من تلاميذه الذين يخدمون الكنيسة بالخبر واوصاهم ان يرفعوا الصلاة للرب في وقتها. وانحنى هو باكياً ورافعاً صلاته للرب يسوع "الا امنحني يا ربنا يسوع المسيح القوة لأذهب وأرى والدتك قبل مماتها. فهي امي وام الكنيسة كلها، ارجوك يا سيدي اعطني الفرصة لأرى وجه امي الحبيبة" ولم يكد ان ينهي صلاته حتى حل الروح القدس عليه واوصله إلى باب العلية التي كانت مضطجعة فيها البتول، وفتح باب العلية، فوجدها مضطجعة على سريرها، فدنا منها وقبلها وقال لها "السلام عليك يا والدة المسيح، السلام على المسيح الذي ولد منكِ. لا تحزني ايتها المؤمنة لانك ستخرجين من هذا العالم بمجد عظيم". عندما سمعت البتول هذا سرت سروراً عظيماً بمجيء يوحنا الحبيب عندها قائلا له: "قد هاجوا اليهود علي وأقسموا حالفين ان يحرقوا جسدي بعد موتي"
اجابها يوحنا: الرب معكِ.
مريم: صلِّ وضع البخور وقل "يا ربنا يسوع المسيح اسمع صوت والدتك وتعال عندها وهي تغادر هذا العالم". وإذ صلى يوحنا سمع صوت من السماء يقول آمين.
2-بطرس: عندما اعلم الروح القدس القديس بطرس كان يقرب قربان الغرباء في روما. إذ كان منحنيا يصلي امام المذبح. فالهمه الروح القدس ان يذهب إلى بيت لحم عند البتول مريم.
3-بولس: القديس بولس ليس من التلاميذ الـ 12 إلا أن الروح القدس الهمه، إذ كان في مدينة تبر في روما قائلاً له "قد حان وقت رحيل ام ربك من هذا العالم". فانذهل بولس من هذا الكلام وقام مسرعاً وشعل البخور وصل للرب ان يحضر عندها.
4-توما: اخبر الروح القدس توما الذي كان في الهند. بينما كان يزور ابن اخت لودان ملك الهند، وهو جالس على سريره يحدثه. نزل الروح القدس عليه كالبرق قائلاً له: "قم اذهب إلى بيت لحم فقد اقترب زمن ام ربك لتنتقل من هذه الدنيا". ولما سمع القديس توما هذا خاف وذهب مسرعاً إلى الكنيسة ووضع بخوراً وصلى.
5-متى: اعلم الروح القدس متى وهو مسافر في البحر، وينقل الرسول متى لنا الخبر قائلاً "انا كنتُ في البحر فهاجت الامواج وغطت السفينة، وجاء بي الروح القدس إلى هنا عندكم".
6-يعقوب بن زبدي: يقول القديس يعقوب "انا كنت في اورشليم اقوم بخدمة الرب، اوحى لي الروح القدس قائلاً قد حان أوان انتقال ام ربك من هذا العالم" وخطفتني سحابة نوارنية واتت بي إلى هنا.
7-برتولماوس: يقول القديس برتولماوس: "انا كنتُ أبشر بأسم الرب في ثيبه ورأيت الروح القدس آتياً من السماء كبرق وقالاً لي قد حان زمن رحيل ام ربك من هذا العالم، فلنذهب عندها إلى بيت لحم، ووضعني حالاً في غمام النور ووصلتُ عندكم".
8-فيلبس: يقول القديس فيلبس "انا عند رحيل البتول ام ربي من هذا العالم كنتُ ميتاً في القبر (اي جسدي تحت التراب اما روحي في السماء) فسمتُ صوتاً يدعوني: قم يا فيلبس فخطفني الروح وأتى بي إلى هنا".
9-سمعان الغيور: يقول القديس سمعان "انا ايضاً كنتُ ميتاً لكني رأيتُ يداً ترفعني وتقيمني من بين الاموات، فحملني الغمام واتى بي عندكم".
10-اندرواس: يقول القديس اندرواس: "انا قمتُ من القبر عندما صرخ صوت في أذني قائلاً: قم اذهب لدى رفاقك في بيت لحم، لان ام ربك قد حان وقت رحيلها من هذا العالم. ووصلتُ حالاً عندكم".
11-لوقا: القديس لوقا هو ايضاً لم يكن من التلاميذ الـ 12 إلا انه من التلاميذ الـ 70. وهب الرب له هذه النعمة لكي يشترك في هذه المناسبة العظيمة. يقول القديس لوقا: "انا قمت من بين الاموات عندما صرخ صوت كصوت بوق السرافيم واضاء النور قبري حيث كنت مضطجعاً وظننت ان يوم القيامة قد بلغ. وبغتة خطفني الروح القدس عندكم فجئت".
12-تداوس ومرقس: يقول التقليد ان التليمذ تداوس والقديس مرقس صاحب انجيل مرقس وهو من التلاميذ الـ 70. بانهم هم ايضاً كانوا مجتمعين مع التلاميذ ساعة انتقال البتول مريم.
ان مثل هذه الروايات ليس لها اثابت قاطع حسب اعتقاد البروتستنت لكن هي رد فعل التقوى والايمان المسيحي المتيقن من ان جسد مريم لم ينله الفساد، وفي هذه الروايات توجد نقاط هامة.
1- ان مريم العذراء هي ام لأبن الله.
2- ان بتوليتها معجرة.
3- مريم العذراء قديسة لا مثيل لها. فالله له قدرة فائقة تمنح العالم العطايا الجيدة. فكيف لا تستطيع هذه القدرة ان تمنح لمريم العذراء الانتقال بالجسد.
4- العذراء التي ولدت بدون دنس اصلي هي أيضا خالية من الخطيئة الاصلية.
5- البتول التي حملت قلبا طاهراً حفظ جميع اقوال ابنها.
6- البتول المحتجبة.
7- هي محبوبة الله العظيمة التي اختارها دون عذارى العالم لكي تحبل بأبنه الكلمة.
8- الحواء الجديدة التي احيت العالم بحبها.
لايوجد اي سبب روحي أو عقائدي يمنع دخول مريم البتول بجسدها إلى السماء. علما ان الكتاب المقدس يثبت ان البتول مريم هي ممتلئة نعمة من الرب، وابنها يكون عظيماً وأبن العلي يدعى.
كان يجري الاحتفال بعيد مريم العذراء في بلاد ما بين النهرين منذ القرن الخامس وهذا ما يؤكده يعقوب السروجي سنة 490 كان يلقي شعراً في عيد مريم وكان يتكلم فيه عن انتقالها إلى السماء، وعن جسدها الطاهر الخالي من الخطيئة خلواً تاماً.
وقال مار افرام سنة 373 الذي كان معاصرا لابيفانيوس الفلسطيني "ان مريم العذراء ماتت ثم انتقلت إلى السماء وأنها مرفوعة على اجنحة المسيح إلى الاجواء السماوية وألقى عليها حلى جديدة واشركها معه في عظمته وجلاله". فاصبح هذا العيد من اروع الاعياد المريمية وهو تقليد محلي قديم يُحتفل به حسب العادة الجارية، تقدم التعازي إلى العوائل التي لها أموات، متذكرين يوم انتقال مريم العذراء إلى السماء. وكان يجري الاحتفال بهذا العيد منذ القرن الخامس في بلاد مابين النهرين.
وفي سنة 600 انتشر الاحتفال في الامبراطورية الرومانية. وبعد الابحاث التي قامت بها الكنيسة أعلن أخيراً في سنة 1950 وعلى يد البابا بيوس 12 ان انتقال مريم العذراء اعتقاد قديم جداً اثبتته الكنيسة واعلنته عقيدة موحى بها ويراد بهذه العقيدة أن مريم لم يدركها الفساد بعد مماتها، بل انتقلت إلى السماء نفساً وجسداً.
"أخيراً فإن العذراء الطاهرة، بعد أن عصمها الله من كل صلة بالخطيئة الأصيلة، وطوت شوط حياتها الأرضية، نقلت جسداً وروحهاً إلى مجد السماء، وأعلنها الرب سلطانة الكون لتكون بذلك أكثر ما يكون الشبه بابنها، ربّ الأرباب، وقاهر الخطيئة والموت". فانتقال القديسة العذراء اشتراك فريد في قيامة أبنها، واستباق لقيامة المسيحيين الآخرين، ففي ولادتك حفظت البتولية، وفي رقادك ما تركت العالم، يا والدة الإله؛ فإنك انتقلت إلى الحياة، بما أنك أم الحياة، وبشفاعتك تنقذين من الموت نفوسنا". وبخضوعكِ الدائم والكامل لإرادة الآب، وبممارساتكِ لعمل ابنكِ الفدائي، ولعمل الروح القدس كله، كنتِ للكنيسة مثال الإيمان والمحبة، وانتِ بذلك "اصبحتِ عضو في الكنيسة فائق ووحيد" بل أنكِ "التحقيق المثالي" للكنيسة .
إذاً قرارنا بشأن هذا هو ان: بعد ما أتمت مريم العذراء الكلية القداسة حياتها الأرضية نقلل جسدها ونفسها إلى مجد السماء، حيث تشترك في مجد قيامة أبنها، مستبقة قيامة جميع أعضاء جسده .
يقلم: أنور كاكو