بعد ثورة تموز1958 في العراق بأشهُر معدودات، ضاع العراقيون بين الولاءات والانتماءات، وابتلوا بالنزاعات المفتعلة وبإرادات تفتقر إلى الرؤية والكفاءة، وفي مشاهد عبثية، تم حصر القرار السياسي بيد فئة تؤمن بمنطق الغلبة والإقصاء وإحتكار السلطة وتحويل مؤسسات الدولة إلى أجهزة وأدوات هيمنة ووسائل إنتقام ومراكز نفوذ مغلقة. وتراجع لدى الكثيرين معنى الوطنية ومعنى المشاركة في حكومة لاتحترم شعبها.
البارتي ( الحزب الديمقراطي الكوردستاني)، الذي كان يشارك في العملية السياسية في العراق ويراقب الاوضاع عن كثب، وفي مواجهة هادئة وصريحة واضحة، وبقناعة راسخة رفض السياسات الملتبسة التي كانت تسحق المجتمع، ووقف بحزم ضد محاولات المس بقيم المواطنة الكاملة، ونادى أكثر من مرة للحوار والتفاهم ولوطنٍ يسوده التوافق، ولكن عندما لم يجد الحياة فيمن ناداه. وبفضل الرؤية الاستشرافية القائمة على المقاربات والأسس المتينة للاب الروحي للكورد الخالد مصطفى البارزاني، مشى بثبات في سياساته المنطقية والواقعية وأرسى في جبال كوردستان دعائم ثورة أيلولية تحررية شكلت في رسالتها وثقلها الشعبي والسياسي وفي مضمونها وتوقيتها وسياقاتها، وفي طريقة تعاطيها مع الأزمات التي افتعلتها الحكومة في بغداد، إنعطافة تاريخية أفضت إلى نجاحات على مستويات مختلفة، وتحولت إلى وجهة إستقطاب وملجأ آمن للسياسيين العراقيين.
وفي بغداد، وفي ظل غياب الحلول الواقعية لقضايا العراقيين، سادت حالات الظلم والإستبداد التي تشخصنت في شخصيات إغترت برأيها ورفضت النصيحة وإستبدت بالسلطات وحكمت الناس بهوى المزاج المتقلب، وأثبتت زيف إدعاءاتها، وعطلت الدستور والقانون وسهلت الطريق أمام الإنقلابيين ليحكموا البلاد بمسميات مختلفة لسنوات دموية مثخنة بالدماء والقتل والتفجير وانتشار الجريمة والخطف والاختفاء القسري، والتهجير والنزوح والقتل والتعذيب والسجون السرية والعلنية.
وفي كوردستان، إستمرت الثورة لسنوات ونجحت في كسب الاعترافات المحلية والدولية والإقليمية والإقرار بمصداقيتها وجدية وواقعية مبادراتها، وفي تفكيك الحملات المغرضة التي استهدفتها وإفشال المؤامرات التي تعرضت لها، وقد أدرك المعادون والمؤيدون لها أن خطها الثوري الثابت غير قابل للمساومة أو الابتزاز، وأن العلاقة معها لا تبنى خارج الضوابط والمعايير التي حددها قائدها. لذلك، لجأت كل الحكومات المتعاقبة في بغداد الى التفاوض معها.
وفي آذار 1970 وقعت حكومة البعث إتفاقية مع قيادة ثورة أيلول. وبعد إعلان الإتفاق بدى المشهد السياسي في العراق زاهياً في التصور، ولكن البعث الذي لم يستطع التخلص من أوهامه القديمة، ذهب إلى أوهام جديدة، وعمل بلا كلل (خلال السنوات الاربعة المحددة لتنفيذ الاتفاق) على إحتكار السلطة وتعزيز أطماعه وترسيخ مكانته كلاعب مؤثر يحدد الأجندة العراقية ويضع قواعد اللعبة، وتعمد في خرق مواد ومبادىء إتفاق آذار الذي شكل الأساس السياسي لبناء الثقة بين العراقيين، وحاول اغتيال البارزاني الخالد وزرع الفتن وشراء ذمم ضعاف النفوس وإشغال البارتي بقضايا جانبية.
اليوم وعندما نستذكر تلك الثورة العريقة التي خاضت معارك حقيقية في كل المجالات والميادين، واستطاعت مواجهة المحن والرياح العاصفة وتداعياتها، وسطرت ملاحم خالدة في الذود عن الشعب والأرض، باحتفالات وكلمات وكتابات ورفع أعلام وصور، إنما نتذكر بحنين وجداني كبير وفريد كل الذين ناصروها وشاركوا فيها بإيمان ورصانة واتزان وحزم، ووضعوا ثقتهم فيها، في مرحلة حفلت بمفترقات تاريخية لم تُعرف من قبل ومن بعد، ولنحيي أرواح شهدائنا الكرام.
ولنقول: ثورة أيلول لاتشبه غيرها ..