

في وادٍ جبلي هادئ، يلفّه صمت مهيب في قضاء الشيخان بمحافظة نينوى شمال العراق تحيط به أشجار البلوط الشامخة، يقع معبد لالش النوراني، أقدس الأماكن على وجه الأرض لدى الإيزيديين. هذا المعبد ليس مجرد بناء حجري قديم، بل هو القبلة والمهد الروحي ومكان الحج والتبرك لديانة الإيزيديين هو المركز الروحاني الأعلى للديانة الإيزيدية في العالم، ومهبط الشيخ عدي بن مسافر الهكاري ( شيخ ئادى ) وهو شخصية دينية بارزة. يجله الإيزيديين ، ومجدد الديانة الإيزيدية .
تمثل الزيارة إلى هذا المكان المقدس رحلةً عميقةً في جذور واحدة من أقدم الديانات في المنطقة، وشهادةً على صمود شعب ظل متشبثًا بهويته رغم أصعب الظروف ورمز لصمود عقيدة عريقة ضاربة في أعماق التاريخ.
قدسية المكان: بيوت الملائكة والقباب المخروطية
عند الوصول، يفرض المكان احترامه. يُطلب من الزائرين خلع الأحذية عند أول عتبة، إشارةً إلى الدخول في أقدس بقعة على وجه الأرض بالنسبة لليزيديين. يتميز المعبد بهندسته المعمارية الفريدة، حيث تتوج مبانيه الرئيسية بقباب مخروطية مدببة بيضاء، ترمز إلى الشمس والصعود نحو النور.
داخل المعبد، على الزائر أن يدخل حافي القدمين تعبيراً عن الاحترام والتقديس للمكان، وهي دلالة على قدسية الأرض التي يخطو عليها. وقد تشير الروايات القديمة إلى أن الزوار يجب أن يكونوا "هادئين ، يُخَيم عليهم الصمت، ويكتفوا بالصلاة، تأكيداً على ضرورة التعبد والهدوء الروحي.
يضم المعبد مزارات ومقامات عديدة، أهمها مقام الشيخ عدي. تُمارس الطقوس اليومية بهدوء في الممرات المظلمة؛ ففي كل مساء، تُضاء فَتيِلات الزيت عند المداخل والأبواب، كإضاءة طريق للشيخ والملائكة. ويعتقد اليزيديون أن كل من يزور لالش لابد له من ربط قصاصة قماش (خرقة) في الشبابيك الداخلية بنية قضاء الحاجات والدعاء.
طقوس العهد: الماء المقدس وشجرة البلوط
تعتبر المياه عنصراً أساسياً في طقوس لالش. يزور الحجاج نبع كانيا سبي (النبع الأبيض) المقدس، حيث يتم تعميد الأطفال اليزيديين حديثي الولادة بمياهه، ويغتسل منه الزوار طلباً للبركة. كما تكتسب أشجار البلوط المحيطة بالمعبد أهمية روحية خاصة، وتعتبر جميع الأشجار في المعبد مقدسة إذ تُعامل بحذر شديد وتُمنع فيها أي عملية قطع أو تدمير، فهي شاهدة على قدسية الوادي منذ عصور.
وتتمحور الزيارة حول الحج السنوي ويعرف بأسم عيد الجماعية أو (عيد جما)، وهو تقليد سنوي رئيسي للإيزديين حيث يتوافد الآلاف إلى المعبد لزيارة ضريح الشيخ عدي بن مسافر وللمشاركة في احتفالات الذي يبدأ في السادس من شهر أكتوبر وتستمر سبعة أيام تتخللها مجموعة من طقوس ومراسم دينية ،الصلوات والتراتيل وإشعال الشموع والأهازيج الدينية القديمة التي تحكي قصص الخلق ومراسم متنوعة لتعزيز التماسك المجتمعي والروحي لدى الإيزيديين, ومن الأهمية والواجب يسعى كل إيزيدي لتحقيقه مرة واحدة في حياته على الأقل , ومن الجانب الاجتماعي في هذا العيد يجمع العائلات والأصدقاء وهذا الحدث يعتبر مميز .
لالش رمز الصمود: الهوية في وجه النكبات
بالنسبة لليزيديين، يمثل لالش أكثر من مجرد موقع ديني؛ إنه رمز للهوية والبقاء. فبعد الإبادة الجماعية التي ارتكبتها عصابات داعش بحق الديانة الإيزيدية عام 2014، تحول المعبد إلى نقطة مرجعية لإعادة بناء الهوية الممزقة وحفظ التراث.
يقول أحد الزائرين وهو يشعل فتيلة زيت: "هنا نشعر بالأمان الروحي، لالش هو بيتنا الأول والأخير. كل حبة تراب هنا تروي قصة صمود ضد 74 'فرماناً' (إبادة جماعية تاريخية).
إن الهدوء الذي يخيم على الوادي اليوم يخفي وراءه تاريخاً طويلاً من المعاناة، لكنه يؤكد في الوقت ذاته أن لالش سيبقى منارة النور وملاذاً مقدساً يحفظ لليزيديين لغتهم، طقوسهم، وذاكرتهم الدينية العريقة.
الأهمية الروحية والتاريخية
يُعتبر معبد لالش بمثابة "خميرة" خلق الكون والحياة في العقيدة الإيزيدية. تعود جذوره إلى آلاف السنين قبل الميلاد، مما يجعله أحد أقدم المواقع الدينية القائمة في بلاد الرافدين. يضم المعبد ضريح الشيخ عدي بن مسافر، وهو شخصية محورية ومقدسة لدى الإيزيديين، مما يضاعف من مكانته الروحية.
ولالش أهمية قصوى في حياة كل إيزيدي:
فن العمارة والرمزية الصامتة
تتميز عمارة لالش بطراز فريد يمزج بين الفنون القديمة، وأبرز ما يميزه هي القباب المخروطية المدببة التي تعانق السماء. كل تفصيل في هذه القباب يحمل دلالة رمزية عميقة:
لالش... صمود وذاكرة
اليوم، يقف معبد لالش شاهداً حياً على تاريخ المنطقة المتنوع وصمود الإيزيديين في وجه التحديات والمآسي. إنه ليس مجرد مكان للعبادة، بل هو نقطة التقاء اجتماعي وثقافي تعزز من تماسك المجتمع الإيزيدي، ويستقبل الزوار من مختلف الأديان والثقافات، مما يجعله جسراً حياً يصل الماضي بالحاضر، وإرثاً إنسانياً تسعى منظمة اليونسكو لإدراجه على قائمة التراث العالمي.
إن زيارة لالش النوراني هي رحلة تتجاوز حدود الجغرافيا، لتمس أعماق الروح الإنسانية وتاريخ الحضارات القديمة.