
يواجه 14 مليون هكتار من الأراضي الزراعية خطر انخفاض الإنتاج بنسبة تتراوح ما بين 30 و50 في المئة (أ ف ب)
عشتارتيفي كوم- اندبندنت/
مع انقضاء الشهر الأول من فصل الخريف تبدو مؤشرات الهطول المطري في مختلف أنحاء إيران أكثر قتامة من أي وقت مضى، فالأزمة الناتجة من تراجع الأمطار والتي تفاقمت تدريجياً خلال الأعوام الأخيرة تحولت اليوم إلى واحدة من أخطر التحديات البيئية والاقتصادية التي تواجه البلاد.
وتظهر البيانات الرسمية الصادرة عن "هيئة الأرصاد الجوية" أن 21 محافظة في الأقل لم تسجل منذ بداية العام المائي الحالي حتى ميليمتراً واحداً من الأمطار، وهذا الرقم يكشف استمرار موجة الجفاف ودخول إيران في مرحلة ممتدة من الفقر المائي البنيوي.
أما متوسط الهطول المطري في البلاد خلال العام المائي 2024 - 2025 فلم يتجاوز 148 ميليمتراً، بانخفاض مقداره 41 في المئة مقارنة بالمعدل طويل الأمد، وهو أدنى مستوى تسجله البلاد منذ قرن، وهو رقم يعكس أزمة تتجاوز مجرد تراجع مخزون السدود لتمس الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي، وتلقي بظلالها على مستقبل قابلية العيش في كثير من المدن الإيرانية.
جفاف غير مسبوق: 21 محافظة إيرانية في حال جفاف تام
تشير التقارير الحديثة الصادرة عن "هيئة الأرصاد الجوية الإيرانية" حتى الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري إلى أن إجمال كميات الهطول الجوي في البلاد بلغ 2.3 مليمتر فقط، في مقابل 8.2 مليمتر كمعدل طويل الأمد، و6.3 مليمتر خلال الفترة نفسها من العام الماضي، ووفقاً لهذه البيانات فقد تراجعت معدلات الأمطار 72 في المئة مقارنة بمتوسط الأعوام الـ57 الماضية، ونسبة 63 في المئة مقارنة بالعام الماضي، وهي أرقام غير مسبوقة في تاريخ إيران الحديث.
وتظهر الإحصاءات أن محافظات طهران ومركزي والأحواز وفارس وكرمان وأصفهان وكرمانشاه وسيستان وبلوشستان وكردستان وهمدان ولرستان وإيلام كهكيلوية وبوير أحمد وجهارمحال وبختياري وبوشهر وزنجان ويزد وقم وهرمزكان وخراسان رضوي وخراسان جنوبي، لم تسجل أي هطول مطري منذ بداية الموسم، مما يضعها كلها في حال جفاف مطلق.
تراجع حاد في الأمطار يشمل معظم المحافظات
تؤكد البيانات الأخيرة أن معدلات الهطول المطري انخفضت بصورة كبيرة في معظم محافظات إيران، إذ سجلت محافظة أردبيل تراجعاً بـ 96 في المئة والبرز بـ 95 في المئة وقزوين بـ 93 في المئة وسمنان بـ 81 في المئة وخراسان الشمالية بـ 79 في المئة وأذربيجان الشرقية بـ 72 في المئة وأذربيجان الغربية بـ 66 في المئة، فيما انخفضت الأمطار في جيلان 56 في المئة وفي مازندران 55 في المئة مقارنة بمتوسط الأعوام الـ57 الماضية.
وعلى رغم أن محافظة كلستان شهدت ارتفاعاً طفيفاً في كميات الأمطار مقارنة بالعام الماضي، فإن الهطول فيها لا يزال أقل من المعدل التاريخي بـ 14 في المئة، أما محافظات الأحواز ولرستان وعيلام فتسجل للعام الثاني على التوالي موسماً بلا أمطار تماماً، وحتى في جيلان التي تعد أكثر مناطق البلاد مطراً، لم تتجاوز كمية الهطول 79.7 مليمتر، أي أقل من نصف ما سجل العام الماضي.
ويرى خبراء البيئة أن استمرار هذا النقص الحاد في الأمطار مؤشر واضح على تغيرات عميقة في النمط المناخي لإيران، تتزامن مع ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي وتهدد مستقبل الموارد المائية في البلاد على نحو خطر.
السدود شبه فارغة والزراعة على حافة الانهيار
شهدت إيران منذ ستينيات القرن الماضي ارتفاعاً في متوسط درجات الحرارة بمقدار درجتين مئويتين، مما أدى إلى تغييرات جذرية في مناخها، فقد تراجعت معدلات الأمطار خلال فصلي الخريف والشتاء، وأصبحت نحو 90 في المئة من مساحة البلاد تعاني الجفاف بمستوياته المختلفة، ويمكن رصد الأثر المباشر لهذه التحولات في أوضاع السدود التي تعكس صورة واضحة لتفاقم الأزمة، فوفقاً لتقرير وزارة الطاقة فقد بلغ حجم المياه الواردة إلى سدود البلاد حتى أكتوبر الجاري 98 مليون متر مكعب فقط، في مقابل 1.66 مليار متر مكعب خلال الفترة نفسها من العام الماضي، مما يعني انخفاضاً بأكثر من 90 في المئة، وهذا التراجع الحاد يعني أن الدور الحيوي للسدود في تأمين مياه الشرب والزراعة آخذ في التراجع الخطر، إذ لا يتجاوز متوسط امتلائها حالياً 34 في المئة، فيما يواجه نصف السدود الرئيسة الـ19 خطر الجفاف الكامل.
وفي طهران تبدو الأزمة أكثر حدة، فالسدود الخمسة التي تزود العاصمة بمياه الشرب سجلت أدنى مستوياتها التاريخية، ولم تتجاوز نسبة امتلاء سد أمير كبير 11 في المئة بواقع 19 مليون متر مكعب، بانخفاض يبلغ 80 في المئة عن العام الماضي، فيما بلغت نسبة الامتلاء في سد لار اثنين في المئة فقط، وسد طالقان 38 في المئة، كما انخفضت كميات المياه في سدي لتيان وماملو 50 في المئة مقارنة بالعام الماضي.
وفي وسط البلاد لم يعد سد زاينده رود يحوي سوى 10 في المئة من متوسط طاقته التخزينية، بينما جفت ثلاثة سدود جنوبية بالكامل، في وقت لم تتجاوز كميات الأمطار منذ بداية موسم الهطول الذي يوفر عادة 70 في المئة من إجمال الأمطار السنوية، مليمترين فقط.
وتنعكس هذه الأزمة مباشرة على القطاع الزراعي، إذ يواجه أكثر من 14 مليون هكتار من الأراضي الزراعية خطر انخفاض الإنتاج بنسبة تتراوح ما بين 30 و50 في المئة، مما أدى إلى تراجع واضح في إنتاج المحاصيل الإستراتيجية مثل القمح والرز والذرة، مما يهدد بتراجع الأمن الغذائي للبلاد ويزيد من اعتمادها على الواردات في ظل أزمة العملة الصعبة، وهو ما قد يفتح الباب أمام أزمة اقتصادية جديدة.
كما تشهد المناطق الريفية موجة نزوح متزايدة للمزارعين ومربي الماشية من المحافظات الجافة إلى المدن الكبرى، وهو ما يتسبب في تفريغ قرى وسط البلاد وشرقها، ويضيف أبعاداً اجتماعية وأمنية إلى الأزمة المائية، وفي الوقت ذاته أدى جفاف البحيرات والمستنقعات، مثل بحيرة أورومية وهامون، إلى تفاقم ظواهر العواصف الترابية والملحية، وتشير التقارير إلى رصد أولى العواصف الملحية حول بحيرة أورومية، مما ينذر بخطر بيئي حقيقي يهدد مدن شمال غربي إيران.
ولم يسلم قطاع الطاقة من تداعيات الجفاف، فقد انخفض إنتاج محطات الطاقة الكهرومائية التي تولد 15 في المئة من كهرباء البلاد 45 في المئة، وهو ما ينذر بتكرار أزمة نقص الكهرباء خلال صيف العام المقبل.
سراب استمطار السحب وشكوك حول الحلول الموقتة
في خضم الأزمة المائية التي تعصف بإيران، تتحدث الجهات الحكومية عن مشاريع مثل استمطار السحب كوسيلة لتعويض نقص الأمطار، إلا أن خبراء الأرصاد الجوية يشددون على أن تأثير هذه الإجراءات محدود للغاية، فقد قال رئيس "منظمة تطوير واستخدام تقنيات المياه الجوية الحديثة" في تصريح مطلع أكتوبر الجاري إن إيران نجحت في توطين تقنيات استمطار السحب وتستخدم حالياً طائرات مسيرة ورادارات محلية الصنع لتنفيذ المشروع تجريبياً، لكن رئيس "هيئة الأرصاد الجوية" الإيرانية أوضح أن تأثير عمليات الاستمطار، حتى في أفضل الحالات، لا يتجاوز زيادة نسبتها 10 في المئة من كميات الأمطار، وهو رقم لا يمكن أن يعوض انخفاضاً يناهز 40 في المئة في معدل الهطول على مستوى البلاد.
ويرى الخبراء أن التركيز على مشاريع موقتة ومحدودة الجدوى لا يؤدي إلا إلى تأجيل الحلول الجذرية لإدارة الموارد المائية، ويؤكدون أن الطريق الواقعي للخروج من الأزمة يتمثل في إصلاح نمط الاستهلاك في القطاع الزراعي واعتماد تكنولوجيا حديثة للري، وإعادة تدوير المياه الصناعية والحد من استنزاف المياه الجوفية، بينما يحذر المتخصصون من أنه في حال استمرار الوضع الراهن فإن الصيف المقبل قد يشهد تطبيق نظام تقنين المياه في المدن الكبرى، ونقصاً حاداً في الإمدادات داخل المدن الصغيرة.
الفقر المائي: أزمة المستقبل في إيران
لم يعد الجفاف في إيران ظاهرة موسمية عابرة بل أصبح جزءاً من الواقع المناخي للبلاد، فالتراجع غير المسبوق في الأمطار والانخفاض الحاد في مستويات المياه الجوفية وهبوط الأرض الواسع في المناطق الوسطى، كلها مؤشرات على تغيرات جوهرية في النظام البيئي الإيراني، ويحذر خبراء البيئة من أنه إذا لم تدر الموارد المائية وفق أسس علمية وتخطيط متكامل بين القطاعات فإن إيران ستتجه نحو فقر مائي دائم، وهو وضع قد يجعل حتى توفير مياه الشرب في كثير من المدن أمراً صعباً.
وعلى رغم التحذيرات المتكررة لا تزال سياسات إدارة المياه تعتمد على إجراءات قصيرة الأمد، فيما أدت مشاريع مثل نقل المياه بين الأحواض إلى نشوء تعارضات بيئية واجتماعية جديدة بدلاً من حل الأزمة، ويطل خريف عام 2025 على أراضي البلاد العطشى التي بحاجة إلى الأمطار أكثر من أي وقت مضى، لكن ما يظهر في الأفق ليس غيوماً محملة بالمطر بل صمتاً مناخياً وشحاً وتآكلاً لآمال الناس الذين ينتظرون كل عام قطرة ماء تنقذ حياتهم.