

في قريةٍ وادعةٍ بين التلال، كان يقطن شابان أدبيان، “سليم” و”نديم”. نشآ على حب الكتب، وتعلّما من الحروف ما لم يتعلمه غيرهم من أبناء القرية. لم يكونا فقط يكتبان الشعر والنثر، بل كانا يزرعان في قلوب الناس الحكمة، ويوقظان فيهم الرغبة في التعلم والتغيير.
رأى سليم أن الجهل عدوُّ الإنسان، فأقام مجلسًا أسبوعيًّا يقرأ فيه للناس كتبًا عن الحياة والدين والعمل. أما نديم، فكان يعلّم الأطفال الكتابة والخط ويحثهم على التفكير، لا الحفظ فقط. شيئًا فشيئًا بدأت ملامح القرية تتغير: ارتفعت الهمم، خفتت النزاعات، وأصبح للعلم مكان في البيوت.
لكن كما أن النور يُظهر الظلال، فقد بدأت الغيرة تنمو في قلوب البعض. تساءل بعضهم في سرّه:
– “من نصب هذين علينا معلمين؟ ولماذا يُذكر اسمهما في كل مجلس؟”
وبدأت المؤامرات تحاك ضدهم، واصبح في القرية مجالس اخرى مبنية على ولائِم لشراء ذمم الفقراء.
وانتشرت الألسن كالريح، تشكك في نوايا سليم ونديم.
قال أحدهم:
– “هما لا يفعلان هذا لله، إنما ليُقال عنهما مثقفين!”
وقال آخر:
– “إنهم يزرعون الكبرياء في أولادنا!”
وقال "آخر إنهم ملحدون!" واجمعت القرية "لماذا هؤلاء مثقفين ونحن لا"
حينها
وصلت الهمسات إلى سليم ونديم. لم يغضبا، لكن الألم كان صامتًا في قلوبهم. جلسا تحت شجرة التين التي اعتادا القراءة تحتها، وقال سليم:
– “يا نديم، هل خسرنا قلوب الناس حين أردنا نفعهم؟”
فأجابه نديم مبتسمًا، رغم حزنه:
– “ربما، لكننا لم نخسر قلوبنا. والغرس لا يُلام إن أثمر.”
وفي اليوم التالي، قرر الاثنان أن يتواريا قليلًا. لم يظهر مجلس سليم، وغاب صوت نديم من الصفوف. بعد أيام، بدأ الناس يشعرون بفراغٍ غريب. الأطفال يسألون عن دروس الخط، والشيوخ يفتقدون صوت الحكمة في المجالس.
عادت القرية مفعمة بالجهل والصراعات والقيل والقال.
حين أدرك الناس قيمة ما كانوا يملكونه، اجتمعوا تحت شجرة التين، وكتبوا رسالة اعتذار بخط طفلٍ من تلاميذ نديم، وجعلوها قصيدة كتبها سليم ذات يوم:
“نُجفِي الجَمالَ، ثمّ نَبكي فِقْدَهُ
ونَلومُ زهرَ الروضِ إنْ لم يَثمرِ”
عاد سليم ونديم بعد ذلك، لكن هذه المرة، لم يكن العلم وحده في قلوب الناس… بل التقدير أيضًا.