ليست كلُّ الأيادي سواءً. فثمّة يدٌ، حينَ تمرُّ، لا تُصافحكَ بجلدِها، بل تلمس شيئاً غائراً فيكَ... شيئاً كنتَ تظنّه نائماً أو ميتاً. يدٌ بيضاءُ، صافيةٌ كأنّها قُطِعت من ضوءِ الصباحِ، لا تمتدُّ لتأخذ، بل لتمنح شعوراً لا يُشبِهُ غيرَه.
على معصمِها سِوارٌ ناعمٌ، لا يزيّنها بقدرِ ما يُكمّلُ أسطورتَها. هو ليس زينةً من ذهبٍ أو فضّةٍ، بل تفصيلاً خافتاً في قصيدةٍ جسديةٍ لا تُقرأ بالحواسِّ فقط، بل بالفِطنةِ، وبذلكَ الشوقِ القديمِ الذي يَبعثه الجمالُ الصامتُ.
لكنَّ السحرَ الحقيقيَّ لم يكن في اليدِ وحدَها، بل في عِطرِها... ذاكَ العِطرُ الذي لم يأتِ من قارورةٍ، بل كأنَّهُ تسرّبَ من ذاكرتِها، أو سُكِبَ من طيفٍ عابرٍ في حُلمٍ. إنَّهُ عِطرٌ لا يُشَمُّ فحسب، بل يُلامسُ داخلكَ، ويتركُ أثراً كأنَّهُ مرَّ من قلبكَ لا من أنفِكَ.
ثم علمتُ، فيما بعد، أنَّ تلكَ اليدَ البيضاءَ خرجت من الضفّةِ الهادئةِ لنهرِ الوشاش... تلكَ البقعةِ التي لا تزالُ تُنبتُ في بغدادَ شيئاً من النقاءِ الخجولِ. ومن هناكَ، من الحاراتِ التي تحفظُ في حجارتِها ظلالَ الزمنِ الجميلِ، جاءت هذه اليدُ... وكأنّها تحملُ في جلدِها ذاكرةَ المكانِ، وفي عِطرِها هديلَ المساءِ الذي لا يشيخُ.
في لحظةٍ واحدةٍ، كانت يدُها تقولُ كلَّ ما عجزتْ أفواهٌ كثيرةٌ عن قولِه. مرّت بي كما تمرُّ الحكاياتُ النادرةُ في عمرِ الإنسانِ... تُلامسُ، ثم تغيبُ، لكنّها لا تُنسى.
فمن يدٍ بيضاءَ فيها سِوارٌ، وعِبيرٍ نازكٍ، ونَسَماتٍ جاءت من حاراتِ الوشاش... يبدأُ كلُّ هذا الجنونِ الجميلِ... وكم من يدٍ تُحرّكُ فينا ما ظننّاهُ انتهى منذُ زمنٍ.
مروان صباح الدانوك - بغداد