في عصر باتت فيه التكنولوجيا تتصدر كل جانب من جوانب حياتنا، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مرآة تعكس واقع مجتمعاتنا بكل ما تحمله من تناقضات. لكن، عندما تتصفح هذه المنصات، يصدمك حجم المحتوى السطحي الذي يملأ الشاشات. منشورات لا تحمل قيمة، صور ومقاطع تستنزف العقول بدلًا من أن تغذيها، وحوارات تفتقد لأبسط معايير المنطق. وكأننا في سباق لإثبات من الأكثر تفاهة بدلاً من من الأكثر وعيًا.
هذا السيل الجارف من "اللا شيء" يفتح أعيننا على حجم الأزمة الثقافية والاجتماعية التي نعيشها. جهل مستتر خلف شاشات مضيئة، وأمية فكرية تُروّج على أنها طبيعية بل ومسلية. والأخطر من ذلك أن هذه الظاهرة لا تقتصر على فئة أو جيل محدد، بل تتسلل إلى كل الأعمار.
ربما يعود الأمر إلى غياب الرقابة الذاتية على ما ننشر، أو إلى الإغراءات المستمرة التي تقدمها خوارزميات المنصات؛ فهي مصممة لتحفز المحتوى البسيط والسريع، وتهمش العميق والمفيد. لكن النتيجة النهائية واحدة: مجتمع يستهلك الوقت والطاقة دون أن يُثمر.
ان العواقب لما ذكر طويلة الأمد، فما يحدث اليوم ليس مجرد ظاهرة مؤقتة، بل هو نمط سلوكي قد يترك آثارًا بعيدة المدى. عندما يتعود الفرد على استقبال المعلومات السطحية والمشتتة، يفقد مع الوقت قدرته على التفكير النقدي والتحليل العميق. نرى أجيالًا تنمو وهي تستهلك دون أن تنتج، وتحاكي دون أن تبدع، مما يؤدي إلى مزيد من الركود الفكري والثقافي.
كيف نواجه هذا الواقع؟ ما الحل؟ قد لا يكون بسيطًا، لكنه يبدأ منّا. علينا أن نرتقي بذائقتنا، وأن نبحث عن المحتوى الذي يضيف لحياتنا قيمة. هجر التفاهة ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة إذا أردنا أن نصنع لأنفسنا مسارًا مختلفًا. دعونا ننظر إلى هذه المساحات كأداة، ونجعلها تعكس أفكارنا وطموحاتنا بدل أن تكون مجرد لوحة عشوائية من الضجيج.
كما أن علينا تشجيع المبادرات التي تُعنى بنشر الثقافة والمعرفة، وفتح النقاشات الهادفة التي تحفز العقول. فكما تنتشر التفاهة بسرعة، يمكن للفكر الناضج أن يجد مكانه إذا أُحسن تقديمه.
إن الوعي بهذا التحدي، والعمل على تجاوزه، هو السبيل الوحيد لنخرج من دوامة الانهيار الفكري. فبدل أن نكون أسرى للتفاهة، يمكننا أن نصبح صناعًا لمحتوى يُضيء عقولنا وعقول من حولنا. المستقبل لن يكون أفضل إلا إذا اخترنا أن نحمله على أكتاف المعرفة، لا على أجنحة التفاهة.
مروان صباح الدانوك - بغداد