
عشتار تيفي كوم - وكالات/
على الرغم من أن البشرية بلغت اليوم ذروة قدرتها على التواصل، لم يسبق في تاريخها أن عبر أفرادها بهذا القدر عن شعورهم بالعزلة.
عام 2023، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الوحدة أصبحت "مشكلة صحية عامة عالمية"، معتبرةً أن "الوحدة والعزلة الاجتماعية أصبحتا أخطر على الصحة العامة من التدخين أو السمنة"، إذ ترتبطان بزيادة مخاطر الأمراض القلبية، والسكتات الدماغية، والخرف، والموت المبكر.
وفي السنوات الأخيرة، عينت كل من المملكة المتحدة واليابان وزراء مختصين بـ"شؤون الوحدة"، في خطوة تعبر عن مستوى القلق المؤسسي المتزايد إزاء هذه الظاهرة التي تمس نسيج الحياة الحديثة في العمق.
و أظهرت دراسات عدة أن جيل زد (الذين ولدوا بين عامي 1997 و2012) هو الجيل الأكثر شعوراً بالوحدة. فبحسب تقرير نشره موقع "غلوبل ويب إندكس" في نهاية عام 2024، قال 80 بالمئة من أفراد هذا الجيل إنهم اختبروا شعور الوحدة خلال العام الماضي، مقارنةً بـ45 بالمئة فقط من جيل "البيبي بومرز" (الذين ولدوا بين عامي 1946 و1964).
وأكد مركز الأبحاث الأمريكي "كابيتا" الاتجاه نفسه، مشيراً إلى أن شباب "جيل زد" يظهرون "انخراطاً اجتماعياً أقل في الأنشطة المجتمعية مقارنةً بالأجيال السابقة".
وتعد جائحة كوفيد-19 من الأسباب المباشرة خلف هذه الحالة، حيث عززت ميل الأفراد إلى الانطواء والعزلة المنزلية حتى بعد انتهاء الإغلاقات.
ولكن ما هي الأسباب الأخرى التي أوصلت العالم اليوم إلى هذا المستوى من الانفصال عن الآخرين وإلى الشعور بالوحدة أكثر من أي وقت مضى؟
تبدو الفردانية اليوم أحد الجذور العميقة لـ"جائحة الوحدة".
ويرى باحثون أن إيديولوجيا النيوليبرالية التي رسخت فكرة أن الخلاص شخصي، وأن على كل فرد أن يعتمد على نفسه فقط، هي المظلة التي نمت تحتها ظواهر مقلقة، مثل الشعور المتزايد بالوحدة.
وقد جعل الإيمان المفرط بالاكتفاء الذاتي البشر أكثر هشاشةً، كعارض جانبي للسعي نحو قدر عالٍ من الحرية. في وقتٍ تآكلت فيه الروابط التي كانت تمنح الفرد معنى وانتماءً مثل النقابات والجماعات المحلية.
ومع صعود ثقافة الإنجاز المستمر و"اللهاث الإنتاجي" (hustle culture)، تحول النجاح إلى ما يشبه ديناً جديداً، وأضحى الوقت رأس مالٍ لا يهدر. تغذي هذه الثقافة وهم الكمال الفردي وتزرع في الإنسان خوفاً من الاعتراف بحاجته إلى الآخر.
كما أصبح يُنظر إلى إظهار الهشاشة الإنسانية كضعف، لا كبوابة للعلاقة مع الآخر، ما يجعل الأشخاص عاجزين عن نسج روابط حقيقية ومتينة.
يظهر ذلك أيضاً في الخطاب الذي يهيمن على علم النفس الجماهيري اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي وكتب التنمية الذاتية، حيث يروج لفكرة "حب الذات" بوصفها الأولوية القصوى، إلى حد يجعل العلاقة بالآخر ثانوية أو مهددة.
تحول الاهتمام بالنفس من تمرين على الوعي والحدود إلى أيديولوجيا ناعمة للفردانية، تلهي الفرد عن حاجته الفعلية إلى التبادل والعلاقات الإنسانية، وتحول العزلة إلى منتج يسوق بلغة التعافي النفسي.
وترى الباحثة أليسا غولدمان، أستاذة علم الاجتماع في جامعة بوسطن، أن هذا التحول لا يعود فقط إلى تغير أنماط العمل أو التكنولوجيا، بل أيضاً إلى تحول ديموغرافي أعمق يعيد تشكيل البنى الاجتماعية.
وتقول: "قد يكون شعورنا بالعزلة الاجتماعية ناتجاً عن حقيقة أننا نقضي وقتاً أقل مع الأصدقاء والعائلة، ونتطوع أقل مما كان الناس يفعلون قبل عقود. لكن هناك أيضاً تحولات سكانية أوسع تساهم في ذلك: الناس يعيشون اليوم بعيداً عن أسرهم أكثر من الماضي، ينجبون عدداً أقل من الأطفال، وتتراجع معدلات الزواج. وعندما ننظر إلى مؤشرات الترابط الاجتماعي، مثل عدد أفراد العائلة أو عدد الزيارات العائلية، نجد أنها كلها في انخفاض. جميع هذه العوامل تراكم الإحساس بالانعزال."
بهذا المعنى، لا تبدو الوحدة مجرد ظاهرة نفسية، بل نتيجة مباشرة لتآكل البنى الاجتماعية والثقافية التي كانت تحفظ التوازن بين الفرد والجماعة.
تتجلى الوحدة المعاصرة أيضاً في البنية المكانية للحياة اليومية. فكما يصف عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارك أوجيه في كتابه "اللامكان"، يعيش الإنسان اليوم في فضاءات تنتج للعبور لا للإقامة: مطارات، ومراكز تسوق، ومحطات، ومكاتب زجاجية، ومقاهٍ مؤقتة. أماكن مزدحمة بالأجساد، لكنها تفتقر إلى التاريخ والعلاقة، فلا تنسج ذاكرة ولا هوية. في هذه "اللامواضع" كما يسميها يصبح العبور بديلاً عن اللقاء، والحركة المستمرة بديلاً عن الانتماء.
برأي أوجيه، لقد صممت المدن الحديثة لتخدم الفرد لا الجماعة: شقق ضيقة، وطرق سريعة، وخدمات توصيل، وتسوق افتراضي. هذه الخصائص كلها التي تميز الحياة الحديثة حول العالم، تقلص المساحات المشتركة التي كانت تنتج التفاعل الاجتماعي.
نحيا اليوم في مدنٍ فائقة الاتصال، لكنها تعيد إنتاج الانفصال في كل تفاصيلها: من المصعد إلى الهاتف الذكي. فالمسافة لم تعد بالضرورة في الكيلومترات بين الناس كما أشارت غولدمان، بل في غياب النظرة المتبادلة والوقت المشترك حتى في البقعة الجغرافية نفسها.
لعل الجملة الشهيرة التي كتبها الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي في منتصف القرن العشرين، تختصر مفارقة عصرنا الرقمي: زحام دائم من الرسائل، والصور والوجوه، في حين تبدو العلاقة الفعلية مع الآخر متعذرة.
في قراءته للعالم المعاصر، يرى الفيلسوف الألماني - الكوري الجنوبي بيونغ - تشول هان، أن ما نسميه اليوم "وحدة" ليس عزلةً بالمعنى الكلاسيكي، بل هي نتيجة لما يسميه "تآكل الآخر"، وهي سمة مجتمعات الرأسمالية المعاصرة.
لم نعد نعيش في عالم يواجهنا فيه المختلف ويوقظ فينا الرغبة، بل في فضاءٍ يعيد إلينا صدى ذواتنا.
برأيه، وسائل التواصل لا تنشئ علاقة، بل تعيد إنتاج الشبه: خوارزميات تقدم لنا ما نحب مسبقاً، وصورٌ نعرضها لأنفسنا أكثر مما نوجهها إلى أحد. في "جحيم التماثل" هذا، كما يسميه، تتلاشى المسافة الضرورية للقاء، لأن الرغبة بالآخر برأيه، لا تولد إلا نتيجةً للغياب والانسحاب.
هكذا تتحول الشفافية المطلقة والحضور الدائم اللذين تَعِدنا بهما المنصات الرقمية إلى شكلٍ جديد من العزلة: الجميع مرئيون، لكن لا أحد حاضر حقاً. الجميع ينظر إلى الجميع، لكن لا أحد "يعرف" أحداً حقاً. يكتب هان: "الشفافية تلغي الآخر" لأنها تزيل الغموض الذي يجعل التواصل ممكناً.
وفي مجتمع الأدائية الذي يصفه في كتاب "مجتمع الاحتراق الوظيفي"، ينغلق الفرد على ذاته بوصفه مشروعاً دائماً للتحسين، فيستنزف نفسه بدلاً من أن يتصل بغيره.
غير أن ما يتذمر منه كثيرون في عالم اليوم قد يكون أمنية بعيدة المنال لشخص محاط بضجيج الآخرين.
وهنا تجدر الإشارة إلى التفريق بين الوحدة والعزلة، إذ كانت الأخيرة، عبر التاريخ، موضوع مديح عند فلاسفة ومفكرين كثر.
وقد بلورت المفكرة السياسية حنة أرنت هذا المعنى حين قالت: "حين نفقد قدرتنا على العزلة، نفقد قدرتنا على التفكير".
في كتابها "حياة الفكر"، وفي تأملاتها بعد كتاب "أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر"، تبين أرنت أن التفكير لا يحدث في حضور الآخرين، بل في حوار الإنسان مع نفسه، ما تسميه "الثنائية في الواحد".
الخطر الأكبر، في رأيها، ليس الوحدة بل انعدام التفكير، فعندما يعجز الإنسان عن الانسحاب إلى ذاته لمساءلة أفعاله، يصبح عرضة للانقياد وراء الجماعة، "منساقاً مع ما يفعله الجميع ويؤمنون به". وعند تلك النقطة يولد الشر الذي رأت المفكرة أنه "تافه" لأنه ناتج عن غياب التفكير نفسه.
فهي تعتقد أن العزلة ترتبط بمَلَكة الحكم، لأن من يفقدها يفقد قدرته على التمييز بين الخير والشر.
العزلة، في معناها الخلاق، ليست انسحاباً من العالم، بل عودةٌ إليه من مدخل أعمق، لكونها لحظة يصغي فيها الإنسان إلى ذاته كي يعرف كيف يخاطب الآخرين.
واليوم، فيما نتصور أنفسنا أكثر عزلةً من أي وقتٍ مضى، قد نكون في الحقيقة أقل قدرةً على ممارسة هذه العزلة حقاً. إذ إننا حتى في وحدتنا، مثقلون بالعالم الخارجي الذي يتسلل إلينا عبر شاشاتنا ووسائط التواصل التي لا نغيب عنها أبداً.
من هنا يمكن القول إن ما يبعث على القلق في "جائحة الوحدة" ليس كونها أزمةً اجتماعية فحسب، بل كونها أزمة حوارٍ داخلي قبل كل شيء، أي فقدان جماعي للقدرة على أن نبقى، حقاً، في صحبة أنفسنا.