

تقف الأوطان في بعض الأحيان والمواقف، عبر السياسات المتقلّبة، في حيرة واضحة، كما هو حال تقلّبات الإنسان الحياتيّة، والذي يجد نفسه أحيانًا في ظروف إنسانيّة واقتصاديّة وفكريّة معقّدة ومزعجة، وربّما، مخيفة وقاتلة.
ومع نهاية الانتخابات البرلمانيّة العراقيّة الأخيرة (قبل أقلّ من شهرين) وَجد العراق نفسه أمام جملة تحدّيات، تتعلّق بالمناصب السياسيّة الكبرى في البلاد!
وبموجب العُرْف السياسيّ العراقيّ المعمول به منذ العام 2005 فإنّ رئاسة البرلمان تُمنح للعرب السّنّة، ورئاسة الوزراء للعرب الشّيعة، ورئاسة الجمهوريّة للكرد!
ووفقًا للتوقيتات الدستوريّة لتشكيل السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة يُفترض بمجلس النوّاب الجديد أن يُعقد لانتخاب رئيس المجلس ونائبيه، ثمّ يَنتخب رئيس الجمهوريّة خلال (٣٠ يومًا) من تاريخ انعقاده، وبعدها يُكَلِّف رئيس الجمهوريّة مرشّح الكتلة الأكثر عدداً بتشكيل الحكومة خلال (١٥ يومًا)!
وهذا يعني أنّ انطلاق العمليّة السياسيّة يكون من انتخاب رئاسة البرلمان، والسؤال هنا مَنْ سيكون الرئيس القادم للبرلمان العراقيّ؟!
بداية حاولت القوى "السنّيّة" تجميع أصواتها في مجلس موحّد أُطلق عليه رسميّا اسم "المجلس السياسيّ الوطنيّ"، وتشكّل يوم 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، ويضمّ نحو 70 نائبًا، في خطوة مشابهة "للإطار التنسيقيّ الشيّعيّ" المتحكّم بمجمل العمليّة السياسيّة.
وأبرز القوى المشاركة في "المجلس السياسيّ" هي حزب تقدّم برئاسة محمد الحلبوسي (33 مقعدًا)، وتحالف "عزم"، برئاسة مثنى السامرائي، ويمتلك (17 مقعدًا)، وتحالف "سيادة" بزعامة "سرمد خميس الخنجر" بعد أن تنازل والده من رئاسة التحالف، (11 مقعدًا)، وتحالف "الحسم" برئاسة وزير الدفاع ثابت العباسي (8 مقاعد)، وغيرهم.
واجتمع المجلس السياسيّ، حتّى اليوم، لأكثر من ستّ مرّات، وجميع اجتماعاته لم يُعلن عنها أيّ تصريح رسميّ بخصوص الشخصيّة الأبرز لرئاسة البرلمان، وَهُم اليوم أمام اختبار كبير خصوصًا مع ضرورة الالتزام بالتوقيتات الانتخابيّة.
وقد أكّد رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان أنّ "جلسة مجلس النوّاب الجديد الأولى ستعقد يوم 29 كانون الأوّل/ ديسمبر الحاليّ، ويجب أن تنتهي بحسم تَسْمية رئيس مجلس النوّاب ونائبيه، ولا يُمكن دستوريّاً وقانونيّاً تأجيلها، أو تمديدها"!
وهذا يعني أنّ "المجلس السياسيّ" ينبغي عليه أن يدخل الجلسة الأولى، يوم الاثنين المقبل، التي ستُعقد برئاسة العضو الأكبر سنًّا، بمرشح متّفق عليه للرئاسة تلافيًا للتناحر "القانونيّ" مع مجلس القضاء الأعلى!
المعلومات المسرّبة من داخل أروقة "المجلس السياسيّ" أكّدت أنّ أبرز الشخصيّات المطروحة للرئاسة هما محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان السابق، ومثنى السامرائي. ويبدو هنالك منافسة شديدة بينهما، وصعوبة في التوصّل لاتّفاق مُقنع لهما، وهذه إشكاليّة شخصيّة وسياسيّة وقانونيّة، وبالذات مع ضرورة تقديم مرشّح واحد للبرلمان، ووجوب حَسم الاسم في ذات الجلسة!
وهذا التحدّي، ربّما، سيضع "المجلس السياسيّ" أمام عدّة خيارات صعبة، وأبرزها:
- تقديم الحلبوسي كمرشّح وحيد لرئاسة البرلمان، مع محاولة إرضاء "السامرائي" بوزارة سياديّة مثل وزارة الدفاع وغيرها من المناصب، وعدم منح أيّ وزارة للحلبوسي، وهذا الاحتمال يصرّ عليه "الحلبوسي".
وهذه الفرضيّة واردة بنسبة 40 بالمئة، ولكن، ربّما، هنالك "حِيلة سياسيّة"، قد "تُجهض" حُلْم الحلبوسي بالرئاسة، وقد استَنْتَجتها بعد نهاية حواريّ مع مقرّب مِن قيادي بالمجلس السياسيّ!
وتتمثّل "الحِيلة" بقبول ترشّح الحلبوسي، ولكن مع الترتيب "النيابيّ" المسبق بعدم حصوله على الأغلبيّة المطلقة، حيث إنّ الدستور العراقيّ (المادّة 55) ينصّ على أن: "ينتخب مجلس النوّاب في أوّل جلسة له رئيسًا ونائبين بالأغلبيّة المطلقة لعدد أعضائه"، وبهذا فإنّ المرشّح ينبغي أن يحصل على 165 صوتًا من أصل 329، وهنا يَكمن "الفخّ" المتوقّع للحلبوسي، حيث سيكون هنالك إبْطال لأوراق التصويت: مرّة بعدم الحضور للجلسة، ومرّة بالأوراق التالفة، وغيرها من الطرق التي تَتْرك الحلبوسي في دوّامة تكرار التصويت مع عدم حصوله على أغلبيّة الأصوات، وبهذا، ربّما، في نهاية الجلسة، أو الجلسات، سيُجبر على الانسحاب، أو القبول بمرشّح آخر.
وهذا، في تقديريّ، من أخطر الاحتمالات وسيكون له تداعيات كبيرة في المراحل اللاحقة!
- الاحتمال الآخر، والمعقول، يكون باتّفاق المجلس على تقديم الحلبوسي والسامرائي معًا للبرلمان، والبرلمان يختار أحدهما للرئاسة!
وهذا الاحتمال، وارد بنسبة 40 بالمئة، ولكنّ الحلبوسي، بتقديريّ، لن يوافق عليه لأنّه يَعْلم بأنّه لو دخل في منافسة مع السامرائي فإنّ حظوظ الأخير أقوى منه، وبالذات مع احتماليّة حصوله على دعم الإطار التنسيقيّ "الشيعيّ" وبعض القوى الكرديّة.
والغريب أنّ التسريبات تشير إلى وجود بعض النوّاب من حزب "الحلبوسي" سيُصوّتون للسامرائي وليس لرئيسهم، وهذا يُثْبت وجود خلافات "هادئة" بين بعض أعضاء الحزب ورئاسته، على الرغم من تأكيدهم، إعلاميّا، بأنّ الحلبوسي مرشّحهم الوحيد للمنصب!
- الاحتمال الثالث والإجباريّ يكون باتّفاق زعماء "المجلس السياسيّ" على تقديم عدّة مرشّحين للرئاسة، ورمي الكرة بملعب البرلمان للاختيار، أيّ أنّ كلّ كيان يُقدّم مَن يراه مناسبًا للمنصب. وهذا الاحتمال، وارد بدرجة 20 بالمئة، وإن حَصل فهذا سيَجعل مصير "المجلس السياسيّ" على المحكّ، وقد تكون بداية النهاية للمجلس!
وهكذا علينا الترّقب ومتابعة التطوّرات القادمة!
dr_jasemj67@