التكوين الداخلي للأرض. ألفريد ويلسون - ألفريد ويلسون
عشتارتيفي كوم- الشرق/
كشفت دراسة جديدة أن الكربون قد يكون العنصر الحاسم وراء تجمد اللب الداخلي للأرض، ونشوء مجالها المغناطيسي الواقي.
وتقدم الدراسة المنشورة في دورية Nature Communications أول دليل قوي على أن تركيبة اللب الغني بالحديد تحتوي على نسبة أكبر من الكربون مما كان متوقعاً، ما يمنح العلماء فهماً أعمق لتاريخ الأرض وتطورها.
الأرض ليست كتلة صلبة متجانسة كما تبدو لنا من السطح، بل تتكون من طبقات متمايزة بخصائص فيزيائية وكيميائية فريدة. فبعد القشرة والوشاح، يأتي اللب الذي ينقسم إلى قسمين؛ لب خارجي سائل، ولب داخلي صلب.
في اللب الخارجي، حيث الحديد المنصهر في حركة مستمرة، تتولد تيارات حمل حراري هائلة، وهي التي تعمل كدينامو طبيعي ينتج المجال المغناطيسي للأرض، وهذا المجال المغناطيسي ليس مجرد ظاهرة فيزيائية، بل هو درع حيوي يحمي الغلاف الجوي والكائنات الحية من الرياح الشمسية والإشعاعات الكونية.
خصائص لب الأرض
وتعد خصائص اللب، الغني بالحديد بشكل رئيسي، مفتاحاً لفهم أعماق كوكبنا، فمن معرفة درجة حرارته وضغوطه الداخلية، إلى تفسير آليات التوصيل الحراري والكهربائي فيه، يعتمد العلماء على دراسة اللب لفهم استقرار الأرض ككوكب حي.
غير أن التركيب الكيميائي الدقيق للب يظل لغزاً لم يكشف بالكامل بعد، إذ تشير الدلائل إلى وجود عناصر خفيفة مثل السيليكون، والكبريت، والأكسجين، والكربون مذابة مع الحديد والنيكل، لكنها غير محددة بالكميات الدقيقة.
واللب الداخلي لقلب الأرض غني بالحديد، ويحيط به لب خارجي منصهر، ومع مرور ملايين السنين، يبرد اللب الخارجي ويتجمد تدريجياً، ما يؤدي إلى نمو اللب الداخلي الصلب، وتمثل هذه العملية "المولد الجيوديناميكي" وهي العملية الطبيعية التي تولد المجال المغناطيسي للأرض في أعماقها.
ألفريد ويلسون الباحث في جامعة ليدز البريطانية: "من المثير أن نرى كيف تتحكم العمليات الذرية في البنية العميقة لكوكبنا. بدراسة كيفية تشكل اللب الداخلي، نحن لا نفهم ماضي الأرض فقط، بل نحصل أيضاً على نافذة نادرة تطل على منطقة لن نصل إليها أبداً، وعلى كيفية تغيرها في المستقبل".
ولا يبقى اللب الخارجي للأرض -الطبقة السائلة من الحديد والنيكل المنصهر- ساكناً، بل يتحرك باستمرار بسبب الحرارة المتدفقة من الداخل نحو الخارج ودوران الكوكب نفسه.
وتحدث هذه الحركة تيارات كهربائية هائلة داخل السائل المعدني الموصل، وكما يحدث في أي سلك يمر فيه تيار كهربائي، تنشأ الخطوط المغناطيسية التي تحيط به، وعندما تتداخل هذه التيارات والحركات الدوامية داخل اللب الخارجي، يتشكل مجال مغناطيسي عالمي يغطي الكوكب بأسره، لكن كيفية بدايتها وزمن حدوثها ظلا موضع جدل علمي لعقود.
حسابات علمية
أشارت الحسابات العلمية السابقة إلى أن الحديد النقي الموجود في أعماق الأرض يحتاج إلى تبريد فائق يتراوح ما بين 800 و1000 درجة مئوية كي يبدأ في التجمد والتبلور، أي أن درجة حرارته يجب أن تنخفض كثيراً دون نقطة الانصهار المعروفة له.
ولكن هذا التصور، رغم دقته النظرية، بدا غير منطقي عند مقارنته بالواقع الجيولوجي، فلو احتاج اللب بالفعل إلى هذا القدر الكبير من التبريد الفائق، لكان اللب الداخلي قد نما بسرعة هائلة ليصبح أكبر بكثير مما نرصده اليوم، ولانهار المجال المغناطيسي الذي يعتمد على التوازن الدقيق بين اللب الداخلي الصلب، واللب الخارجي السائل.
مقطع عرضي كرتوني للأرض يظهر الوشاح، واللب الخارجي، واللب الداخلي. ألفريد ويلسون
ولأن أيا من هذين الأمرين لم يحدث عبر تاريخ الأرض الممتد لمليارات السنين، فقد اتضح للعلماء أن فرضية الحديد النقي غير كافية لتفسير ما نراه، وأن هناك عناصر أخرى مختلطة بالحديد لا بد أنها لعبت دوراً أساسياً في جعل عملية التجمّد ممكنة وبالشكل الذي يتوافق مع الملاحظات الجيوفيزيائية الحالية.
ولفك شفرة هذا اللغز الذي حير العلماء لعقود، لم يكن أمام الباحثين سوى الاعتماد على تقنيات المحاكاة الحاسوبية فائقة الدقة، إذ لا يمكن الوصول إلى أعماق الأرض مباشرة.
عناصر أرضية
واستخدم الفريق نماذج ذرية شملت نحو 100 ألف ذرة، جرى إخضاعها لظروف تماثل الضغط والحرارة الرهيبة داخل اللب، لتتبع كيفية بدء عملية التجمّد، وتكوّن البذور البلورية الأولى، وركزت الدراسة على أربعة عناصر بعينها هي السيليكون، والكبريت، والأكسجين، والكربون.
ولم يأت اختيار هذه العناصر من فراغ؛ فهي تعد الأكثر احتمالاً للذوبان في الحديد المنصهر أثناء المراحل الأولى من تكوين الأرض، إذ إنها موجودة بوفرة في الوشاح العلوي، ويمكن أن تكون قد انتقلت تدريجياً إلى اللب بفعل العمليات الجيولوجية العنيفة التي صاحبت نشأة الكوكب.
كما أن هذه العناصر معروفة بقدرتها على تغيير الكثافة والخصائص الفيزيائية للحديد، وهو ما قد يفسر سبب كون اللب أقل كثافة من الحديد النقي وفق ما تكشفه القياسات الزلزالية؛ لذلك كان اختبارها ضروريا لفهم كيف أثرت في مسار تجمد اللب الداخلي، وما إذا كان وجودها قد جعل عملية التبلور ممكنة بالوتيرة التي نراها اليوم.
وافترضت التوقعات العلمية السابقة أن العناصر الخفيفة مثل السيليكون والكبريت قد تساعد على خفض درجة انصهار الحديد، وتجعل عملية التجمد أسهل، باعتبارها تخلخل البنية البلورية، وتفتح المجال أمام تشكل اللب الداخلي بسرعة أكبر، لكن المحاكاة الذرية كشفت العكس تماماً.
ووجود هذين العنصرين جعل الذرات أكثر اضطراباً، وأبطأ تكوّن البذور البلورية، ما يعني أن اللب يحتاج إلى تبريد فائق أكبر ليتجمد، وهو أمر يتعارض مع ما حدث فعلياً في تاريخ الأرض.
وفي المقابل، برز الكربون كعنصر حاسم، إذ ساعد على استقرار البنية البلورية للحديد المعرض لضغوط وحرارة هائلة، فسهل بداية عملية التبلور وخفض مقدار التبريد الفائق المطلوب، وهو ما ينسجم مع حجم اللب الداخلي الحالي ومع استمرار المجال المغناطيسي عبر مليارات السنين.
دور الكربون
ويقول المؤلف المشارك في الدراسة "أندرو ووكر" الباحث في جامعة أكسفورد البريطانية إن وجود عناصر خفيفة مثل الكربون يفسر أيضاً سبب انخفاض كثافة اللب مقارنة بالحديد النقي، وهو ما تؤكده قياسات الزلازل.
وحاول الباحثون تحديد الكمية المثالية من الكربون التي تجعل تجمد اللب الداخلي ممكنا بالوتيرة التي تتوافق مع تاريخ الأرض المعروف.
وفي البداية، وضع الباحثون سيناريو متحفظاً باعتبار أن الكربون يشكل 2.4% من كتلة اللب، غير أن الحسابات أظهرت أن هذه النسبة لا تكفي، لأن الحديد المنصهر يحتاج في هذه الحالة إلى تبريد فائق يعادل 420 درجة مئوية تحت درجة انصهاره كي يبدأ في التبلور؛ وهو رقم مرتفع للغاية، ولا يتماشى مع الظروف التي يعتقد أن الأرض مرت بها.
ولاحظ العلماء أنه يتمركز عند قاعدة أحد الأذرع الحلزونية في القرص، وهي منطقة غنية بالمادة، ويُعتقد أنه هو من تسبب في تشكل هذا الذراع عبر جاذبيته التي جذبت المادة نحوه وشكّلت المسار الحلزوني حوله.
وعلى مدار سنوات، لاحظ الفلكيون أن العديد من الأقراص الكوكبية الأولية حول النجوم الفتية تظهر أنماطاً هندسية مذهلة، حلقات وفراغات، وحتى أذرع حلزونية.
وُضعت نظريات تفسر هذه الظواهر بأن كواكب ناشئة تُحدث تلك التشوهات أثناء دورانها، لكنها بقيت نظريات دون رصد مباشر لأي من هذه "الكواكب النحاتة" وهي تمارس هذا التأثير حتى الآن.
مشهدان مختلفان للقرص المحيط بالنجم HD 135344B ففي الجانب الأيسر نرى صورة التقطها جهاز ERIS على تلسكوب VLT تُظهر كوكباً مرشحاً في طور التكوين بينما في الجانب الأيمن صورة تعرض مزيجاً من بيانات متعددة الأطوال الموجية جمعتها أداة SPHERE ومرصد ALMA وتُظهر توزيع الغاز والغبار في القرصESO/F. Maio et al. / T. Stolker et al
في السابق، رُصدت الأذرع الحلزونية في قرص النجم HD 135344B باستخدام أداة "سفير" الموجودة على التلسكوب الأوروبي العملاق، لكن تلك الرصود لم تكشف عن وجود كوكب بداخلها.
والجديد أن الباحثين استخدموا أداة أكثر تطوراً تُدعى ERIS، وهي مصور طيفي فائق الدقة، ما أتاح لهم رصد ما يعتقدون أنه الكوكب المسبب لتلك الأنماط، متمركزاً في قاعدة أحد الأذرع الحلزونية، تماماً حيث توقعت النماذج النظرية وجوده.
وأشار فرانشيسكو إلى أن ما يميز هذا الرصد أنه لا يعتمد على استنتاج غير مباشر، بل نرى الضوء الصادر من الكوكب نفسه وهو ما يزال عالقاً داخل القرص".
كيف تتكون الكواكب؟
يتكون حول النجم الشاب قرص من الغاز والغبار يُسمى "القرص الكوكبي الأولي.
تبدأ جسيمات الغبار داخل القرص بالتصادم والالتصاق، مشكّلة كتلاً أكبر تدريجياً.
تستمر هذه الكتل في النمو بفعل الجاذبية لتُكوّن أجساماً تُعرف بـ"الكواكب الأولية".
تبدأ الكواكب الأولية بجذب الغاز والغبار من حولها، مما يزيد كتلتها ويُسرّع نموها.
بمرور ملايين السنين، تستقر الكواكب في مداراتها، وتكتمل عملية التكوين، مكوّنة نظاماً كوكبياً حول النجم.
الكواكب الكبيرة تزيل أو تبتلع ما تبقّى من الغبار في مداراتها، تاركة فجوات واضحة في القرص.
شارك
وإذا ما تأكد هذا الاكتشاف، فقد يُمثّل تحولاً جوهرياً في فهمنا لكيفية ولادة الكواكب، فرؤية كوكب وهو يقطع طريقه داخل قرص كوكبي أولي تاركاً خلفه تموجات غبارية تماثل بصماته الخاصة، هو بمثابة "لحظة البداية" الحقيقية التي طالما سعى علماء الفلك لتوثيقها.