منذ العام 2003، لم تعد الانتخابات في العراق مجرد ممارسةٍ ديمقراطية فحسب، بل تحولت إلى مرآةٍ للصراع السياسي والإقليمي، وساحةً لقياس موازين القوى بين الداخل والخارج، كل دورةٍ انتخابية تُفتَح وكأنها بدايةٌ جديدة، لكن النتيجة دائماً واحدة، إعادة إنتاج النظام مع تغييرات في الوجوه لا في البُنى.
اليوم، ونحن على أعتاب انتخابات تشرين الثاني 2025، يبدو المشهد أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، فالعراق يدخل هذه الاستحقاقات مثقلاً بأربع أزماتٍ متداخلة، أزمةُ شرعيةٍ سياسية، حيث تحاول جهاتٌ معينة التأثير عليها عبر تقليل نسبة المشاركة، وأزمة الاقتصاد الذي يعاني من اعتمادٍ شبه مطلقٍ على النفط، وأزمة الحشد الشعبي الذي صار جزءاً من معادلة الحكم، وأزمة النفوذ الخارجي الذي يثقل القرار الوطني.
فمنذ انتخابات 2018، بدا واضحاً أن ثمة جهاتٍ سياسية واجتماعية تتحرك بشكلٍ منظم للحد من نسبة المشاركة الشعبية، سواء عبر الدعوات العلنية للمقاطعة، أو من خلال إشاعة خطابٍ يرسخ قناعةً مجتمعية بعدم جدوى الانتخابات، وقد أسهمت هذه الحملات بالفعل في جعل انتخابات 2021 تسجل أدنى نسبة مشاركة منذ 2003، لتتحول المقاطعة من خيارٍ فردي احتجاجي إلى ما يشبه الاستراتيجية المعتمدة لدى بعض القوى الساعية لإضعاف شرعية العملية الانتخابية؛ وفي انتخابات 2025، سيكون التحدي الأساسي أمام النظام السياسي هو كسر هذا المسار، واستعادة حضور الناخبين في صناديق الاقتراع، لأن أي تراجع إضافي في نسبة المشاركة سيبقي النتائج –مهما كانت– رهينة الشكوك والطعون في تمثيليتها.
الأزمة الاقتصادية في العراق ما تزال تراوح مكانها، فالموازنات العامة مهما بلغ حجمها تبقى هشة طالما أنها قائمةٌ على موردٍ وحيد هو النفط، من دون أي تنويعٍ حقيقي للإيرادات، ومع محاولة واشنطن إنهاء الاستثناءات الخاصة باستيراد الكهرباء من إيران، تجد بغداد نفسها أمام اختبارٍ معقد في ملف الطاقة، بينما يستمر ملف الدولار والقيود المصرفية في تقييد حركة السوق، وهكذا يغدو الاقتصاد ورقة ضغط في يد الخارج وعبئاً داخلياً على أي حكومةٍ مقبلة، فهل تمتلك القوى السياسية الجرأة على كسر هذه الحلقة المفرغة؟
هذه الانتخابات ستجري في لحظة مفصلية فواشنطن صنفت في أيلول 2025 أربع فصائل من الحشد الشعبي ضمن خانة "منظماتٍ إرهابية أجنبية"، وهو ما يضع الحشد الشعبي كله في مرمى التساؤلات، هل ستبقى هذه القوى قادرة على خوض الانتخابات بغطاءٍ سياسي، أم أن العقوبات ستجعل وجودها عبئاً على حلفائها؟ القوى الشيعية الفاعلة تدرك أن خسارة الحشد تعني خسارة جزءٍ من الضمانة السياسية–الأمنية، لكنها تدرك أيضًا أن الاصطدام المباشر مع واشنطن قد يكلفها أثماناً باهظة، لذلك فإن نتائج المفاوضات الأمريكية–الإيرانية في الأشهر المقبلة ستنعكس مباشرةً على الوضع السياسي العراقي.
أما خارجياً، فلا يمكن قراءة انتخابات 2025 بمعزلٍ عن التوازنات الإقليمية والدولية، واشنطن تريد برلماناً لا يمنح الشرعية المطلقة لنفوذ إيران، وطهران ترى في هذه الانتخابات فرصة لترميم نفوذها بعد سلسلة من الضربات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، فيما تراقب أنقرة المشهد بعينٍ على الملف الكردي وبأخرى على ملف المياه والتجارة، كل طرف يحاول أن يضمن لنفسه "كتلة برلمانية وازنة" تحمي مصالحه، حتى وإن جرى ذلك عبر أدواتٍ عراقية محلية.
وهكذا، تدخل الأحزاب العراقية السباق الانتخابي وهي محملةٌ بملفاتٍ تفوق طاقتها، بعضها يتصارع من أجل البقاء في المشهد السياسي، وبعضها الآخر يخشى العقوبات، فيما لا يزال الشارع يبحث عن قوىً جديدة تعبر عن غضبه وأحلامه، لكن هل يملك هذا الشارع الأدوات والقيادات التي تمكنه من قلب الطاولة؟ أم أن الانتخابات المقبلة ستعيد إنتاج التوازن الهش نفسه الذي عرفناه في 2018 و2021؟
إن القراءة الدقيقة تؤكد أننا أمام انتخابات ليست محليةً بالكامل، بل جزءٌ من معركةٍ إقليمية ودولية على مستقبل العراق، ولذلك، فإن السؤال الأهم لا يتعلق فقط بنتائج المقاعد، بل بما إذا كان العراق سيخرج من صندوق تشرين الثاني/نوفمبر ببرلمان قادر على الإمساك بالقرار الوطني، أم أن الصندوق سيكون مجرد فصل جديد في لعبة النفوذ الممتدة منذ 2003.