

في كل عام، تتجدد ذكرى الميلاد، فنرى الأضواء تضيء الشوارع، والموسيقى تملأ الأجواء، وتنتشر الزينة التي تحمل رسالة أمل وسلام. إنها مناسبة تتجاوز حدود الزمن، تدعونا للتأمل في أعظم هدية مُنحت للبشرية: ولادة المخلص. لكن جوهر هذه المناسبة لا يكمن في الاحتفال الخارجي فحسب، بل في انعكاس هذا الحدث العظيم على دواخلنا، وفي استعدادنا لولادة جديدة، ولادة الفرح الحقيقي داخل القلب.
ولفهم هذا الفرح العميق، لا يوجد مثال أقوى من مشهد الترقب الذي يسبق استقبال مولود جديد في العائلة.
عندما يطرق خبر قدوم طفل جديد أبواب العائلة، يسري شعور لا يوصف من البهجة والترقب. فجأة، تتغير ملامح الحياة اليومية في المنزل، وتتحول الأجواء إلى خلية نحل تضج بالحب والعمل، حيث تمتلئ بالضيوف وتغمرها السعادة بقدوم هذا الحدث السعيد.
تبدأ على الفور رحلة من التحضيرات المبهجة التي لا تنتهي:
الكل يترقب، والكل يبتسم، في مشهد عائلي دافئ:
قد تجد الجدات يخرجن الملابس الصوفية المنسوجة بانتظارٍ طويل، والآباء يعيدون ترتيب الغرف لإفساح مجال لسرير صغير سيحمل أغلى الأحلام.
رائحة "المغلي" (أو أي حلوى تقليدية أخرى) تفوح في الأرجاء، معلنةً حلاوة المناسبة، والعيون تلمع بترقبٍ لا يوصف. هذا الاستعداد العائلي ليس إلا انعكاساً لفرحة فطرية بأن الحياة قد تجددت بيننا؛ فولادة طفل تعني ولادة أمل جديد، وبداية فصل مليء بالحياة والحب
هذه المشاعر الإنسانية الدافئة، وتلك اللهفة العارمة التي نشعر بها تجاه طفل من لحمنا ودمنا، هي أقرب صورة يمكننا أن نرسمها لنفهم عمق "عيد الميلاد". فميلاد المسيح ليس مجرد ذكرى تاريخية حدثت وانتهت قبل ألفي عام، بل هو حدث حيّ يتجدد، يشبه تماماً استقبال هذا الطفل الغالي في وسطنا اليوم.
في هذه اللحظة الفريدة والمميزة، ينتظر الآباء والعائلات قدوم فرد جديد يُضيء حياتهم. إنها فترة مليئة بـالحب، الترقب، والفرح الغامر.
إن لحظة استقبال مولود جديد هي واحدة من أكثر التجارب الإنسانية عمقاً وتأثيراً. غالباً ما تسيطر المشاعر التالية على الآباء والأقارب:
وعندما تحين اللحظة، وتسمع العائلة الصرخة الأولى، يذوب التعب ويحل محله شعور بالقداسة. تتسابق الأيدي لاحتضان المعجزة الصغيرة، وتجتمع العائلة - الكبير والصغير - حول المهد الجديد. في تلك اللحظة، وسط ضحكات الأقارب وهمسات المباركات، نشعر بأن الزمن قد توقف. إن دفء "اللمة" العائلية حول الطفل الجديد، وتلك النظرات المليئة بالحنان، تذكرنا بأن الحب هو جوهر وجودنا، وبأن كل طفل يولد يحمل معه رسالة بأن الله لم ييأس من البشر بعد.
ولكن، هل تقتصر الفرحة على الزينة والهدايا والمهنئين؟ تماماً كما نفتح أبواب بيوتنا لاستقبال المولود الجديد بأبهى حلة، ونتسابق لخدمته وتوفير الراحة له، دعونا نتساءل: كيف هي استعدادات "بيت قلوبنا"؟
إن البهجة العائلية التي نعيشها بمولد طفل من لحمنا ودمنا، هي صورة مصغرة، وظلٌ باهتٌ أمام الفرح العظيم الذي يحل عندما يولد المسيح في قلوبنا. فكما يغير الطفل نظام البيت ويجعله يتمحور حوله، هكذا عندما يولد المسيح في القلب، فإنه يعيد ترتيب أولويات حياتنا، ليصبح هو المركز، وهو الفرح، وهو الحياة. إن ميلاد المسيح ليس مجرد ذكرى تاريخية حدثت وانتهت قبل ألفي عام، بل هو حدث حيّ يتجدد، يشبه تماماً استقبال طفل جديد في وسطنا اليوم.
الاستعداد لاستقبال "ضيف" القلب
وكما ننشغل بتحضير المنزل وتنظيفه وتزيينه لاستقبال المولود الجديد، يدعونا زمن الميلاد لنقوم بالتحضيرات ذاتها، ولكن على مستوى الروح. فإذا كنا لا نرضى أن نستقبل طفلنا في غرفة غير مرتبة، فكيف نستقبل "طفل المغارة" في قلوب مليئة بالقلق أو الخصام؟
إن التحضيرات الحقيقية للميلاد تتجاوز الزينة الخارجية والأضواء البراقة في الشوارع. هي تلك المساحة التي نفرغها في داخلنا، ننظفها من غبار الحزن واليأس، لنفرشها بالمحبة والتسامح، لتكون "مذوداً" دافئاً يليق بملك السلام.
فرحة الحضور
عندما يولد الطفل، يصبح هو مركز اهتمام العائلة، بوجوده ينسى الأهل تعبهم، وبابتسامته تشرق الشمس في البيت. هكذا هو المسيح في حياتنا. حضوره يغير "جو" الروح كما يغير الطفل جو البيت.
ميلاد المسيح هو إعلان بأن الله لم يعد بعيداً، بل صار "عمانوئيل" أي "الله معنا". لقد جاء ليشاركنا تفاصيل حياتنا، ليمسح الدمعة كما تفعل الأم مع طفلها، وليمنحنا الأمان الذي يشعر به الأب وهو يحتضن صغاره. الفرح الذي نشعر به اليوم هو فرح اللقاء، وفرح الشعور بأننا لسنا متروكين لوحدنا في هذا العالم.
دعوة للفرح العائلي
اليوم، ونحن نجتمع مع عائلاتنا، ونتبادل الهدايا والتهاني، دعونا نستحضر تلك المشاعر الأولى: مشاعر الدهشة، والبراءة، والفرح النقي بقدوم الحياة.
لنجعل من قلوبنا بيتاً دافئاً يولد فيه المسيح كل يوم، ولتكن فرحتنا به كفرحة أب وأم بطفلهما البكر، فرحة لا تسعها الكلمات، بل تترجمها مشاعر السلام والمحبة التي نفيض بها على من حولنا.
جوهر رسالة الميلاد
عندما يولد المسيح في قلوبنا، تبدأ عملية تحول عميقة: تزدهر ثمار الروح، ويصبح العطاء أكثر سخاءً، والمغفرة أكثر سهولة. إن الفرح الحقيقي لميلاد المسيح هو في عيش رسالته: رسالة السلام، والمحبة غير المشروطة، والخدمة المتواضعة للآخرين.
في موسم الأعياد هذا، دعونا لا نكتفِ بتهنئة بعضنا البعض بميلاد طفل بيت لحم، بل لنتفحص قلوبنا، ونسأل: هل وُلد الفرح حقاً في داخلي؟ وهل جهزنا "بيت قلوبنا" لاستقباله ليصبح هو مركز حياتنا؟ لأن الولادة عندما تتم في القلب، تصبح كل أيامنا أعياداً، ويغمرنا "ميلاد الفرح" الأبدي.
كل عام وقلوبكم تولد من جديد بالحب والسلام.
كل عام , والمسيح يولد في قلوبكم فيملؤها فرحاً لا يزول