تهنئة من المجلس الشعبي الكلداني السرياني الاشوري (سورايا) الى قداسة البابا ليون الرابع عشر      مؤتمر عمّان عن مسيحيّي المشرق... دعوة للوحدة والتنوير في مواجهة التطرّف والتمييز      غبطة البطريرك يونان يشارك في جلسات مؤتمر "المسيحيون في المشرق العربي وطموحات الوحدة والتنوير"، ويترأّس إحداها، عمّان - الأردن      نيجيرفان بارزاني مهنئاً البابا الجديد: إقليم كوردستان يظل ملتزماً بالتعايش والوئام بين الأديان      مسرور بارزاني يهنئ البابا الجديد بريفوست بانتخابه رئيساً للكنيسة الكاثوليكية      غبطة البطريرك يونان يهنّئ بانتخاب قداسة البابا الجديد لاون الرابع عشر      قداسة البطريرك مار كيوركيس الثالث يونان يحتفل بذكرى القديس كيوركيس الشهيد في نهلة      المنظمة الآثورية الديمقراطية تهنئ قداسة البابا ليو الرابع عشر      السوداني يهنئ البابا الجديد باختياره لرئاسة الكنيسة الكاثوليكية      رئيس الجمهورية يهنئ بابا الفاتيكان الجديد ‎بمناسبة انتخابه      المحكمة الاتحادية العراقية ترفض إصدار أمر ولائي ضد قانون تحويل حلبجة إلى محافظة      "ترامب أكد أن التفاوض مع بوتين صعب".. مصادر أميركية تكشف      مسيرات وخرق إلكتروني.. تفاصيل هجوم باكستان المضاد على الهند      نمط حياة شائع يساوي خطر التدخين على صحتك      كيف يعيش بابا الفاتيكان ماديا؟.. راتب رمزي ومصاريف مشمولة      تحديد موعد مغادرة أنشيلوتي عن ريال مدريد      البابا لاوُن الرابع عشر: دعوتنا هي أن نشهد بفرح      ايران تنفي.. صور أقمار صناعية تكشف منشأة نووية سرية على 2500 فدان شمال البلاد      وزير الداخلية العراقي يطعن بمنح جوازات دبلوماسية لشاغلي 14 منصباً رفيعاً وعائلاتهم      العمال الكوردستاني: اتخذنا قرارات تاريخية بناء على دعوة أوجلان
| مشاهدات : 3224 | مشاركات: 0 | 2011-02-01 17:01:37 |

الكهريز

سعدي المالح

 

سعدي المالح

 

في طفولتي كان ثمة كهريز في عنكاوا. وهذا الكهريز- على وفق الاعتقاد السائد- موروث من زمن الملك الآشوري سنحاريب (705-681) ق. م، ولعله كان جزءا من مشروع إروائي كبير، أو شيّد في القرون المسيحية الأولى، إلى جانب كهاريز أخرى لا تزال بعضها قائمة في سهل حدياب– أربل.

معماريا، كان هذا الكهريز يعد أسطورة حضارية: سبع آبار متصلة بعضها بالبعض عبر قناة تحت الأرض مسقفة على نحو نصف قوس بالآجر المفخور، تتزود من مياه جوفية، تنحدر مهرولة نحو ثلاثة كيلومترات، ثم تنسكب من فم تل صخري في حوض كبير زلالاً صافياً، تُصدر خريراً متناغماً، لتجري بعد ذلك متبخترةً في ساقية جميلة، تروي عطش القرية بناسها وحيواناتها، والبساتين الخضراء الممتدة على طرفيها.

كانت هذه الساقية تدخل القرية من طرفها الشرقي فتسقي، أول ما تسقي، على اليمين بستان القس بولص عبدوكا ومينا كومتا (السوداء) زوجة أخيه المتوفى، البستان العامر بالكثير من أشجار التوت والرمان وكروم العنب والخضار المختلفة كالبصل والخيار والطماطم والفجل والكرفس والسلق وغيرها المزروعة في وسطه. وعلى اليسار بستان الخواجة ويردينا الحسيني الذي كان يحوي خمس شجرات توت كبيرة وعدد من أشجار التين والرمان وكثير من الكروم والخضار. بعد أن تهب الساقية لهذين البستانين مياها وفيرة تلتف يسارا لتسقي بستانا آخر واسعا، أو قل عدة بساتين للخضراوات لأولاد الخواجة سبي. ثم تسير الهوينا لتمر، بعد انتقالنا إلى بيت جدي لأمي، متهادية من أمام بيتنا. كان مجراها يبعد عن بابنا بضعة أمتار فقط. وما أن أطل براسي من الباب الخشبي الضخم ذي المسامير المفلطحة الكبيرة أرى أشعة الشمس تلمع على صفحة مياهها الصافية الرقراقة، وأجد أهل المحلة يجلسون في الأصباح الصيفية على حافة الساقية تحت ظلال حائط بيت المختار حنا بويا سبي، حيث تمر بجواره، تخلصا من الحر. أخرج بمرح وألعب مع بعض أصدقائي, وعلى ضفة هذه الساقية أنصب أعوادا رفيعة، فتأتي الفراشات الملونة لتحط عليها، أتقرب منها خفية وامسكها بأناملي الصغيرة وأضعها في علبة زجاجية. وأحيانا أبني أحواضا صغيرة على ضفة الساقية الغرينية وادخل فيها سمكة صغيرة جدا مثل دودة.

بين إلتواءات هذه الساقية وخضرة هذه البساتين العامرة، والحقول الديمية التي تليها مباشرة، كنا، نحن الأطفال، نسرح ونمرح ونلعب ونسرق التوت والرمان وبعض الخضار أحيانا، أو نصيد العصافير بالمقلاع (الجتل) من على الأشجار أو ضفتي الساقية. ولهذا كنا الأعداء اللدودين لأصحاب هذه البساتين، ولا سيما القس بولص عبدوكا وزوجة أخيه مينا اللذان كانا يخرجان من بيتهما المجاور المطل على البستان وهما يشتمان ويلعنان آباءنا وأجدادنا راكضين وراءنا مسافة إلى أن نبتعد. لكننا لم نكن نتعظ فنرجع بعد ساعات أو في اليوم الثاني وكأن شيئا لم يكن. أما بستان العم ويردينا فكان أكثر سهلا للسطو والنهب من قبل الأطفال لأن مسكن هذه العائلة كان في الطرف الآخر من المحلة؛ في زقاق طويل يدخل بعيدا في عمق البيوت، ولهذا لم يكونوا يتواجدوا دائما في البستان إلا في الفترات التي كان العم ويردينا العجوز يبقى في  القبرانا (كوخ صغير في البستان، وهي تصغير لكبر أو كفر وتعني بالسريانية الكوخ الصغير أو القرية) ولم يكن يخيفنا كثيرا لأنه كان في تلك الأيام طاعنا في السن وغير قادر على الركض مثل القس بولص ومينا كومتا.

كانت ثمة أشياء كثيرة تجذبنا في هذين البستانين وفي مواسم مختلفة. في نهاية الربيع مثلا التوت اللذيذ، إذ كان للعم ويردينا أكبر عدد من أشجار التوت وأقل عدداً منه للقس بولص وثلاث شجرات لبيت المختار تطل اثنتان منها على السور الشمالي المجاور للساقية والثالثة على السور الشرقي ونصف أغصانها تقع خارج السور تغرينا للتحرش بها. توت شجرة المختار كان أبيض كبيرا وحلوا، وتوت القس بولص فيه من الأبيض والأحمر، بينما توت العم ويردينا معظمه أحمر ووردي فيه بعض الحموضة، وكان هذا التوت يستهويني أكثر من غيره. وذات مرة خاطت أمي لي قميصا بجيب. وأمي، على فكرة، كانت خياطة ماهرة تعرفها المحلة جيدا، لبست القميص مزهوا ذاك اليوم، واستغللت في الظهيرة، فرصة ذهاب العم ويردينا للغداء، فهرعت مع صديق لي نحو أشجار التوت، وتسلقنا غصنا عامرا بالثمر اللذيذ، وبدأنا نأكل بشهية من ذلك التوت. ولأنني كنت أحب والدتي كثيرا، تذكرتها وأنا في تلك النشوة، فأردت تكريمها على خياطتها للقميص الجميل بأن آخذ لها جيبا مملوءاً بالتوت الأحمر الشهي، ثم فكرت أن استزيد فوضعت أيضا بعض التوت في طرف قميصي. ولا أعرف كيف نزلت من الشجرة وركضت فرحا إلى البيت لأقدم هديتي إلى أمي. في الحوش ما رأتني أمي، وقبل أن تسمح لي بالحديث، بدأت تلطم على رأسها:

يا ابن الـ...... هذا أول يوم تلبس فيه القميص، لقد عمت عيوني بخياطته وأنت قد تلفته بالتوت.

نظرت إلى التوت الذي في جيبي وفي طرف قميصي، وكان قد ترك لونه في كل مكان، وأردت أن أقول لكنني جئت إليك بالتوت، إلا أنها هجمت علي وضربتني كفا وأفرغت التوت من القميص ورمته في الماء وهي تقول:

أشوف كيف يذهب هذا اللون لعنك الله. 

وكان القصب الكثيف في أحد أطراف بستان القس بولص يجذبنا كثيرا خاصة في أوائل الصيف وبعد بدء عطلة المدارس. كان هذا القصب عاليا يخرج من سور البستان ويميل نحو الشارع إذ من السهل علينا قلع أنبوب منه أو قص قسم من أنبوب بالسكين دون أن يرانا أحد. فنذهب ونجلس عند الغرغراوا (فتحة مياه الكهريزالمحدثة خريرا يشبه الغرغرة) ونصنع هناك لأنفسنا الدوزلا (ناي مزدوج) أو الشبابة أو غيرهما من الأدوات "الموسيقية" البدائية.

ومن المشهيات الأخرى في هذين البستانين، وتحديدا في بستان العم ويردينا، الحصرم. وكان هذا العنب الحامض قبل نضوجه لذيذا جدا وخاصة عندما كان يؤكل مع الملح، ونحن لم نكن نبخل بقطفه منذ أن تبدأ حباته بالتكور. أما الرمان فكنا نبدأ به قبل أن ينضج فنأكله مزا، وعندما ينضج تكون لنا حصة فيه لا سيما كنا نجد الكثير منه متساقطا تحت الأشجار.     

الصراع الأبدي والدائم في تلك البساتين كان بين ابن المحلة عامر شابو رزوقي من جهة وبين القس بولص ومينا كومتا. كان عامر صيادا ماهرا للعصافير بالمقلاع (وكنا نسميها بلهجتنا العنكاوية القشتة والأصح هي مقلاعتا بالسريانية ومنها المقلاع العربية) وكان عامر يصيد عشرات العصافير يوميا وتراه طول الوقت، وخاصة في الظهيرة أو الأصباح الباكرة، يدور في بستان القس بولص وفي يده المقلاع ويطبق أحيانا المثل القائل إنه يقتل عصفورين بحجر واحد. كانت أحجار عامر الطائرة من مقلاعه تتلف الكثير من الأثمار، ولهذا كان القس بولص يتربص به أحيانا، وما أن يراه إلا ويركض وراءه شاتما. تصور هذا القس الذي كانت تهابه عنكاوا بوقاره ورزانته وورعه أصبح في السنوات الأخيرة من حياته- رحمه الله- يصارع عامر الصغير ومصيدته!     

بعد عودتي إلى الوطن واستقراري في مسقط رأسي سجلت عدة مقابلات مع بعض كبار السن في عنكاوا  تحدثوا فيها عما كانت عليه عنكاوا في طفولتهم وشبابهم. وفي مقابلة من تلك المقابلات قال لي المرحوم يوسف أسوكا، إنه ذات يوم، حينما كان فتى مراهقا، قدم له جدي لأمي سبو مقي وأحد وجهاء عنكاوا الخواجة ويردينا حسيني جرخا (قداحة) وفنداً (شمعة رفيعة داكنة اللون) وطلبا مني اجتياز مجرى نفق الكهريز من أوله إلى آخره على أن ينتظراني عند البئر الأولى الأم، لكي أكتشف إن كانت ثمة قاذورات أو حيوان ميت مرمي فيها. وأضاف : أشعلت الشمعة وأحنيت ظهري ودخلت خائفا من فوهة "المفتح" بعكس مجرى الماء، وسرت في النفق حتى وصلت البئر الأولى، وهناك ناديت على العم سبو فسألني إن كنت رأيت شيئا ما. قلت له: لا .قال: إذن سأمد لك الحبل. فمد لي الحبل وسحبني. ولما وصلت إلى سطح الأرض شكراني هو والعم ويردينا وأثنيا على شجاعتي وأخبراني بأنهما كانا قد سمعا أن جثة أُلقيت في نفق الكهريز وكان يريدان التـأكد من الخبر الذي اتضح انه كان كاذبا ، لكنهما لم يرغبا بالإفصاح عنه لي لكي لا أخاف وامتنع عن دخول النفق.  

هذا الكهريز بآباره السبع، وفتحته ذات المياه المتدفقة الغزيرة، والباردة في عز الصيف التي نسميها (المفتح) ومَخاضتيه الواسعتين الكبيرة والصغيرة (اورزالتا رابثا وأورزالتا زورتا)، وساقيته الجميلة الوادعة (شاقَيثا)، كان ملعب صبانا، ومنبع حكاياتنا.

في نهاية الربيع كنا نتجول في مماشي تخوم الحقول وبأيدينا كتبنا المدرسية استعدادا للامتحانات النهائية، فنلتقي أحيانا عند هذه الآبار ونجلس على حوافها نتبادل المعلومات أو التوقعات في ما ستكون عليه الأسئلة، نأكل أحيانا بعض النباتات البرية التي نسميها محليا تشيراتا وقوللغانه والكعوب وغيرها.

في عيد الصعود (سولاقا أو نوسرديل)، وفقا للتقليد، من عادة الناس، كبارا وصغارا، أن يسكبوا الماء على بعضهم البعض. وعندما كنت صغيرا، كنا نحن الصغار نحمل طاساتنا أو سطولنا أو أي إناء نتمكن أن نحمل فيه ماء، ونهرع منذ الصباح، بعد عودتنا من الكنيسة، إلى الساقية، وهناك نتبادل سكب الماء على بعضنا البعض، وعلى كل من نصادفه في طريقنا أو على مقربة منا سواء كان صغيرا أم كبيرا. وما اشد فرحتنا عندما نحظى برجل هام، فيحاول التملص منا في البداية، إلا انه يغادر إلى بيته، في النهاية، خاسرا ينقط منه الماء، كأنه دجاجة مسموطة. وأحيانا نستغل هذا العيد لسكب الماء على بعض معارفنا "غير المرغوب فيهم" أو أصدقائنا اللدودين فنكمن لهم ونفاجئهم بسكب الماء عليهم ونهرب فيتعذر عليهم اللحاق بنا، لكننا نسمع أحيانا بعض العتاب أو بعض اللعنات الخفيفة تلاحقنا.

ولهذا التقليد حكايتين الأولى مرتبطة بالمسمى الأول نوسرديل ويعد بحسب الكنيسة الآشورية عيدا قوميا ويعني بالأكدية (سكب الماء على الإله) وكان يحتفل به في بابل وآشور بينما يسمى لدى الكنيسة الكلدانية سولاقا أي الصعود ويعد عيدا دينيا صرفا يرتبط بذكرى صعود المسيح إلى السماء. ولعل ثمة شعوب أخرى تحتفل بمثل هذا العيد لأنني شاهدت في برنامج تلفزيوني عيدا مماثلا لهذا العيد لدى بعض الأقليات في مناطق جبلية نائية من الصين.

وكانت فرحتي لا تضاهيها فرحة عندما يسمح لي جدي بأخذ حصانه إلى الساقية مساء لأرويه، أو عندما يسمح لي الراعي بمرافقته لإرواء قطيع أغنام جدي. وكان لطريقة الإرواء ووقته، فنونه ومواعيده، مثلما لأحايين صيد السمك أو نقل الماء إلى البيوت. إرواء الماشية عادة كان يتم مساء بعد عودتها من الرعي، ونقل الماء إلى البيوت يتم صباحا باكرا عندما يكون الماء زلالا صافيا لا يعكره شيء، لأن هذا الكهريز كان له قدسيته. وكان الأطفال الأكبر مني سنا يسردون قصصا عن أناس أصابتهم عاهات عندما حاولوا تلويث مياهه! أحدهم أصيب بالعمى وآخر تيبست يده، وثالث انتابه الجنون، ولهذا كنا لا نتجرأ على تعكير الماء أو تلويثه أبدا. وتحكي والدتي أن أحد رجال القرية كان مغمورا ومهملا، فأراد أن يذيع صيته ولو بالسوء، فرمى في الساقية وعند الفتحة (المفتح) في الصباح الباكر قاذورات بيته، وأصبح على إثرها مضربا للمثل السيئ، وظل هذا المثل سائدا في القرية والقرى المجاورة.

مياه هذا الكهريز انقطعت في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. حينها كنت صغيرا جدا، وتمكن الأهالي بعد فترة من إعادة المياه إلى مجاريها، ويحكى أن في اليوم الذي تدفقت فيه المياه إلى من المفتح إلى الساقية من جديد فرح الأهالي فرحا عظيما وراحوا يخبرون بعضهم بعضا، وشاءت الصدف أن يكون معظم أهل القرية في ذلك اليوم مدعوون إلى حفل زواج أحد أبنائها، يرقصون على على أنغام الطبل والمزمار، وحال سماعهم للخبر ، من شدة فرحهم، تركوا حلقات الرقص وتوجهوا نحو فوهة المفتح. ولما رأى الطبال وعازف المزمار ما حدث ولم يبق أحد من الراقصين توجها هما أيضا في إثرهم وراحوا يعزفون لهم هناك، فتشكلت حلقات الرقص من جديد وابتلعت فرحة المياه المتدفقة فرحة أهل العريس الذين بقوا وحدهم!

جفت مياه الكهريز من جديد في أواخر الخمسينيات، كنت في حدود الثامنة من عمري، ولا أنسى أبدا، عندما نادي المنادي في القرية: يا أهل عنكاوا ، الكهريز جف، لقد نضبت مياهه. فهرع الناس، كل بما يملك من أدوات وآلات إلى المفتح، الذي كان ما يزال يسكب مسيلا ضعيفا من الماء، والآبار السبع، لتنظيفها والسماح بمزيد من الماء بالجريان. في تلك الأيام تحسن مجرى الماء قليلا غير أنه لم يعد كما كان قبلا. لكن بعد سنوات، في السنوات الأولى من الستينيات جف البئر مرة وإلى الأبد، وكان يشاع أن المياه سرقت من قبل أهالي القرى المجاورة الذين غيروا مجرى المياه الجوفية إلى قراهم! أو حفروا آبارا ارتوازية في منطقة تقع ضمن البحيرة الجوفية للكهريز. ويقول البعض لا هذا ولا ذاك وإنما خسفت الآبار بتأثير هزة أرضية ضربت المنطقة في تلك الأيام. وقد تكون هذه الساقية جفت بسبب إهمال الأهالي في صيانتها وتنظيفها بعد حصولهم على الماء الصالح للشرب الأكثر نظافة من أنابيب وحنفيات موزعة في المحلات المختلفة، ثم الممتدة والداخلة إلى بيوتهم. ولا أحد يعرف أي النظريات أصح، لكن على العموم ثمة مئات من الكهاريز جفت في المنطقة في العقود الأخيرة. 

وإلى تلة هذا المفتح، كان المتزوجون من أصدقاء العريس يأخذون العريس، بعد أن تدخل العروس بيته، ليعلموه ويهيؤوه " للدخلة" فنلحق بهم نحن الصغار ونوشوش لبعضنا البعض بما يمكن أن يعلموه! وربما الأمر الأهم لنا كان أن نحصل على بعض الدجاج الذي كان يولم في هذا الطقس.

وفي المخاضة الواسعة ( اورزلتا) دخلت الماء للمرة الأولى في حياتي مع فرنسي بويا وفاضل نوري يونان ورمزي فرنسي وغيرهم من أطفال محلتي واصطدت سمكا صغيرا بواسطة دشداشتي. كانت هذه المخاضة غير عميقة تتلألأ في قعرها أنواع من الحصى الملونة وتسبح فيها أسماك صغيرة ناصعة البياض.

أما نساء القرية، فأكثر حكاياتهن مع الكهريز هي ما يخص الجن والأبالسة، وهو أمر نراه طبيعيا إذا ما عرفنا إنهن كن يرتدن الساقية لنقل المياه الصافية إلى بيوتهن قبل أن تتعكر، في الساعات الأولى من كل صباح وسط الظلام والبرد في الشتاء، وتحت ضوء القمر في الصيف. ولم أكن أتعدى الخمس أو الست سنوات عندما كانت والدتي تأخذني معها لأحمل لها الفانوس، وهي تحمل السطل أو كوز الماء فتعلمني إذا ما أوقفنا الجن عليّ أولا أن ارسم بسرعة إشارة الصليب على وجهي قبل أن يحاول الجن أن  يلطمني أو يكفخني على رأسي، ثم أسرع بتلاوة: "أبانا الذي في السموات" حتى يهرب.. لأن الاعتقاد السائد أن الجن يظهر للناس في الليل وفي الأماكن القريبة من الماء ويهرب عند سماعه للصلوات!.

حكايا الجن مع نساء القرية كانت بالعشرات، فهذه لطمها على وجهها وتلك ركض وراءها، وثالثة تحرش بها، ورابعة خطف منديلها.. وإلخ. وكلما سمعت، في تلك الأيام، واحدة من تلك الحكايا خسف قلبي وانكمش، حتى إنني لازلت كلما مررت من قرب ساقية أو نبع في الليل تذكرت حكايا الجن.

ساقية هذا الكهريز اِندرست وعدد من آباره أيضا، فضلا عن المفتح والاورزلتا. ولم يبق في عنكاوا بساتين ولا مزارع مع شديد الأسف. والساقية الثانية التي كانت تروي الجزء الشمالي من عنكاوا، المنطقة التي كانت ذات يوم مليئة بالبساتين، إلى درجة أن الأراضي الواقعة خلف تلك البساتين على طريق "بحركة" كانت تسمى إلى وقت قريب أراضي ما وراء البستان (باثرت باقجة) اندرست قبل هذه الساقية ، لقد وعيت وهذه الساقية جافة نلعب أحيانا في آثار مجراها اليابس الذي كان ذات يوم عامرا بالمياه.

منذ أن جف الكهريز توقفت زراعة الخضار الموسمية في القرية تقريبا لأن المحاولات القليلة التي جرت فيما بعد بحفر الآبار الارتوازية لم تنجح طويلا، ثم تحولت القرية الفلاحية ذات الأراضي الواسعة رويدا رويدا إلى بلدة يسكنها الموظفون الحكوميون وبعض أصحاب المهن الصغيرة ولم يعد أصحاب الأراضي الديمية يزرعون أراضيهم، ثم زحفت مشاريع الأعمار على الأخضر واليابس كما يقال لتتحول البلدة الصغيرة إلى مدينة عصرية بعيدة عن الفلاحة ولم يبق فيها أي اثر للكهريز إلا في ذاكرة البعض من أمثالي.

 

 

 










أربيل - عنكاوا

  • رقم الموقع: 07517864154
  • رقم إدارة القناة: 07504155979
  • البريد الألكتروني للإدارة:
    [email protected]
  • البريد الألكتروني الخاص بالموقع:
    [email protected]
جميع الحقوق محفوظة لقناة عشتار الفضائية © 2007 - 2025
Developed by: Bilind Hirori
تم إنشاء هذه الصفحة في 0.4646 ثانية